عن أبو شهيد والأفروسنتريزم وأشياء أخرى

منذ اللحظة الاولى كانت الكيمياء بيننا منعدمة.

هو كان طفل أمريكى من أصل أفريقي إسمه شهيد أو بالأحرى "Shaheed" .. كان ينبوع طاقة لا ينفد .. كرة نار عمرها لا يتعدى التسع سنوات. يتميز بخليط من الذكاء ، وسرعة البديهة، الممزوجة بسخافة سن ما قبل البلوغ. آلة نكت قصيرة وسمجة ملحوقة بضحكات طويلة ومتتالية وعالية تفرض نفسها على كل السامعين ...

أما أنا على الجانب الآخر، فطاقتى عادة تحوم فى منطقة الlow energy .. ولنفس هذا السبب أعتقد أننى لطالما وجدت ضالتي في تدريس فصول ثانوي، لاستطاعتى بشكل أو بآخر استحضار تلك الطاقة معهم في المكان. هذه الحقيقة لم تمنعنى حينها من قبول تعليم العربية After-school لمجموعة صغيرة من الطلبة الأمريكيين دون سن العاشرة، كطريقة لتوفير بعض المال الإضافي. ولمن لا يعلم ، فتعليم اللغة الثانية للأطفال مجال له تفاصيله وحذافيره، وأنا لست على دراية حقيقية بشقه الممارساتى.

وقبل أن تحكم على، فإعلم أننى أتحمل جميع إخفاقاتى كمدرس يؤمن بكل ما قيل في الdifferentiated learning والmultiple intelligences والcultural relevancy. وأدرك جيدا وقوع مسؤولية تصميم الأنشطة المناسبة لاحتياجات الأطفال المختلفة على عاتقي. أرجو أن تعلمى أيضا أنني حاولت محاولات مريرة مع شهيد. فقد تحولت معه إلى "أراجوز" يقفز ويغنى و "يعمل البدع". إلا أن الكثير من محاولاتي معه باءت بالفشل.

باختصار، شهيد كان يحتاج إلى شخصية بتركيبة مختلفة تماما عنى. وأعتقد أنه سرعان ما أوصل إحباطه وعدم اندماجه إلى عائلته. فأصبحت الأم هى الأخرى متشككة من جدوى الحصص ، فبدأت أستشعر شكوكها فى كل مرة كانت تأتي لاصطحابه فيها.

و في أحد الأيام وجدت رجلا يطرق على بوابة المدرسة بعد انتهاء حصتنا. كان ضخم البنيان وله صوت جهور عرف به نفسه كأبو شهيد.

كانت تلك مقابلتنا الأولى. لم يضيع الوقت وبدء المحادثة بعدد لا بأس به من الأسئلة، كان الهدف الأساسى منها هو تقييمى كمدرس. حاولت أثناء تلك الفقرة أن أستعرض مؤهلاتي. و لكن لسبب ما لم ينبهر على الإطلاق. ثم سألني بشكل مباشر

  • "أنت منين؟"
  • "من مصر"
  • "و إيه اللي جابك هنا؟"
  • "دراسة .. وبعدين حاجة جابت حاجة ... وأدينى لسه قاعد"
  • "بس غريبة أنك من مصر .. أنت ملامحك مش مصرية"

لم أستوعب الكلام في باديء الأمر ، فبان على نبرتى شيء من التردد.

"قصدك إيه؟"

"المصريين لونهم أسود ... مش زيك. أنت شكلك عربي ... أنتوا غزيتم مصر مع محمد ، لما العرب استعمروا مصر وبسببهم بقيتوا أنتم سكان مصر الأصليين."

قالها كحقيقة غير قابلة للتفاوض بثقة المؤرخ الباحث المتمرس.

بدأت في التصبب عرقا. لأول مرة في حياتي أشعر بكينونتى المصرية تحت خط النار .. طيلة عمرى كانت مصريتى شيء مسلم به .. تداخلت مشاعرى ... غضب مصحوب بحيرة واستنكار ... فمن ناحية أدرك أن القومية اخترعها الإنسان لتلبى رغباته فى الشعور بالإنتماء لكيان أكبر من شخصه ... وكانت نتاج حركة أوروبية أيديولوجية لها معطياتها وسياقها التاريخي. ففى أي موقف آخر كنت في الأغلب علقت قائلا "يعنى إيه مصرى أصلا؟"

و لكن في هذا الموقف تحديدا رددت ب"حزقة" مكتومة تظهر عادة عندما أتعجل في الإجابة ويأخذنى أحدهم "مقص حرامية على خوانه" ..

  • "ده مش حقيقي على فكرة ... هو أنت عمرك رحت مصر قبل كده؟"
  • " لأ مارحتش"

رد فعلى الغريزي لم يوجهنى إلى مناقشته فى أصول القومية، ومفارقة استخدام رجل أمريكي أسود لمفهومين غربيين مصطنعين كالعرق والقومية لينتزع بهما عنى هويتى ... لم أحاول حتى تفنيد ما قاله تاريخيا في حدود معرفتى بالموضوع ... بل تحول النقاش إلى محاولة غريبة منى لإثبات أن المصريين فيهم جميع الألوان والأشكال. وأن الأسود هو أحد ألوان الطيف المصرية. وحقيقة لا أدري إن نجحت فى ألا يتحول النقاش إلى محاولة منى للتملص من أفريقية مصر.

ظهرت نزعتى القومية المحفورة فى جنبات قلبى بقوة لا شك فيها ... وما زلت أتساءل إن إحتوت على آثار لعنصرية كامنة هنا وهناك. عنصرية تجلت وأنا أتابع ردود أفعال البعض تجاه حفل كيفن هارت. فالشيطان يكمن فى التفاصيل .. والكثير من الحق يراد به باطل.

وها هو المقهور يقهر بسطحية بالغة في فهمه لتاريخ قارة بأكملها تحت رداء الانتماء الأفريقي ... جاء ليشكك فى هويتى و يمارس على عنفا مورس عليه لسنين تباعا. عنفا فى رأيى صهيونيا في لبه، لا يحمل بداخله أى محاولة حقيقية للفهم. فقهر المقهور قد يكون أكثر خطورة من قهر االقاهر، لأنه يأتى تحت مظلة استحقاق يمزج بين الحقيقة والخرافة التاريخية. وبه يشرعن العنف.

يومها قضيت رحلة العودة إلى البيت أتخيل كل جملة وكلمة كان من الممكن الرد على أبو شهيد بها. قضينا الساعات التالية نتبادل المقالات التى تثبت وجهات نظرنا ولم نصل إلى أى استنتاج.

لم يحضر شهيد حصتي مرة أخرى. ولا أدري إن كان السبب إنعدام الكيمياء بيننا، أم إخفاقى كميسر، أم نقاشي الغريب مع والده. في الأغلب كان مزيجا بين كل هذه الأسباب.

إلا أننى متأكد من حقيقة واحدة.

شهيد تعلم في حصتى أن اسمه أصله عربى ويعني "martyr" بالإنجليزية.


البحث عن القاهر في كتابات فريري

حين قرأته للمرة الأولي، بدي كتاب باولو فريري "بيداغوجيا المقهورين" (١٩٦٨) كالكتاب المقدس. جاذب في طرحه، ناقد في تحليله، وثوري في طموحه. بوصلة لكل من تراوده فكرة الاشتباك مع التعلم بشكل نقدي.

فكيف كان لي ألا أقع في غرامه؟

في عالم يتحكم فيه قهر المادة، أعطي فريري مآلا ثوريا لمهنة ارتبطت مؤخرا بالتهميش والتجاهل، معلنا أن دورنا الرئيسي كمدرسين هو المساهمة في تحرير هذا العالم من قهره. رأى فريري في رحلة التعلم طريق لتفنيد تلك الحقائق، ومواجهتها، بل وتغييرها. وبالرغم من أن ممارساته طبقت في ورش لمحو الأمية في البرازيل وتشيلي مع العمال والفلاحين، إلا أنها طورت لتشمل التعليم النظامي. فنظر للمدارس كمواقع مؤكدة لترسيخ القمع. أو مواقع ممكنة للتحرر.‬

أدوات فريري واضحة. نظرية للتعلم تتمركز حول المساواة بين سلطة القاهر والمقهور. بين المدرس والطلبة. أدرك أن التعليم الحديث جعل من المدرس أداة للقهر، ملخصا دوره في إخضاع الطلبة لفهم محدد للعالم. درجاته هي رصاصه، وسلاحه هو علم يحد من القدرة علي تخيل عالم مختلف .. عالم أفضل..

ولذلك يبدأ الإخلال بمعادلة القوة تلك بأشكلة واقع الطلبة المعاش. إلا أن مصدر تلك "الأشكلة" هو دوما الطالبات والطلبة، بتجاربهن وحياتهم. هن من يتولين مهمة التعبير عن المشاكل التي يوددن استكشافها. أما الميسرات فدورهن لا يتعدى مساعدة الطلبة على طرح الأسئلة، ومن ثم خلق حوار استكشافي في دوائر نقاش، يهدف إلى فهم جذور تلك المشاكل. ومن خلاله تنمي مهارات البحث وشغف التعلم.

لكن بالنسبة له لم يكن التنظير والنقاش كافيا أبدا. وجب مصاحبة التنظير بشق تنفيذي نحاول فيه حل المشكلة وتغيير الواقع المعاش - وهنا تتبلور العلاقة الجدلية بين النظرية والفعل. يغذيا بعضهما البعض. فالنظرية تساعد على فهم الواقع.. فنحاول تغييره. ننجح أحيانا ونفشل كثيرا. فنراجع أنفسنا ونعيد تفنيد النظرية، لنغيرها في دائرة أبدية من النقد والتحسين.


أعيد قراءة فريري بعد أن تجاوزت الثلاثين ... و بعد أن تملكني اعتقاد بأنني كنت قد تجاوزت مع نهاية عقدي الثاني ثنائية القاهر والمقهور ... فلم لا و نحن نعيش في عالم ال"ما بعد" أو ال post .. ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، وما بعد الإنسانية..

فماذا بعد ال"ما بعد"؟

"يزعم مناصري ال"ما بعد" أن صراع الطبقات قد انتهي"، قالها دونالد ماسيدو معلقا علي احتكار سياسات الهوية لرؤية العالم.

أغواني طرح نسبية الحقيقة في بداية المطاف. فنعم، الواقع معقد، والهويات متداخلة.. اختياراتنا كبشر يحددها عدد لا نهائي من المعطيات. مزيج متغير من القناعة والتربية والتجربة والمشاعر ... فكيف لنا أن نختزل كل تلك العوامل في كلمتي القاهر والمقهور؟ أليس الرجل الأسمر الكادح المعتدي على زوجته قاهرا ومقهورا في نفس الآن ... أليست سيدة المنزل البيضاء الغنية قاهرة ومقهورة في نفس الحين هي الأخرى؟

كلام واقعي، ولكن "حذار من فخ النسبية الأخلاقية". أقولها بصوت عال لأذكر نفسي بأن الوقوع في هلامية النسبية أقرب كثيرا مما قد يتخيل البعض

أعيد قراءة فريري، محاولا البحث عن أرضية فكرية صلبة... لعلها تساعدني على فهم ثنائية القاهر والمقهور بشكل أعمق. كنت دوما مهتما بالمقهورات والمقهورين.. كيف يتحررن؟ ما هي عوائق تمكينهم؟ وكيف لي كمدرس أن أتجاوز وأتحرر كلية من أغلال القمع التي تشربتها؟

إلا أن تلك المرة تختلف..

فاليوم، وبين ثنايا صفحات كتابه، أبحث عمن ولدوا قاهرين؟ وأتساءل: كيف يتشكل وعي من ولدوا في كنف رفاهية الكومباوند؟ أليس لهم الحق في بيداغوجيا خاصة بهم؟ أليس من حق طلبتي من رواد المدارس الدولية حق التحرر؟ أو بالأحرى واجب التحرر، وهم من قدرت السلطة بأشكالها لهم. فحياتهم في أغلب الأحيان متجذرة في قهر، يعيشونه ويستفيدون منه بدون إدراك. قهر عرفه فريري كأي "محاولة لاستغلال فرد ما، أو أي محاولة للإحالة بين تحقيق أي شخص لذاته" (ص٥٥) حتي و إن كان في إطار تعاملهم اليومي المحدود مع الخدم و السائق الخاص، في عالم يبدو و كأنه قد شيد فقط لراحتهم.

هل من الممكن استخدام أدوات فريري لتحريرهم - وهم النقيض الفعلي للمقهورين - حتى نستكشف معا امتيازاتنا؟ طبقا لفريري تلك الأدوات ليست ضمانة لأي شيء، فالقاهر "قد يعاني عند اكتشافه لقهره، إلا أن ذلك لا يعني إطلاقا تضامنه مع المقهورين بالمرة!" (ص ٤٩). كيف إذا نكشف الستار معا عن تواطؤنا؟ وكيف نحول هذا التواطؤ إلى تضامن حقيقي؟ وكيف أتجنب تحول الفصل لمساحة ماسخة للتعامل مع الإحساس بالذنب الطبقي، دون أي تغير حقيقي مادي في إختياراتنا؟ حتى لا تتحول محاولاتنا للانخراط مع الواقع إلى "كرما زائفا"، يتلخص في التبرع بأكياس رمضان وبطاطين للشتاء، دون أي اشتباك حقيقي مع الواقع و مسبباته.

**فهل بإمكان القاهر فعلا المساعدة في تحرر غيره من المقهورين؟

في البداية، تبدو إجابة فريري حاسمة: لا يمكن للقاهر أبدا أن يحرر. فالمقهورون هم الأكثر قدرة و "استعدادًا لفهم مغزى ورؤية حقيقة مجتمعاتهم القمعية" (ص 45). كلام منطقي ومتسق مع أفكاره عامة.

إلا أن صياغته تبرز اختلافا غاية في الأهمية بين "تحرير شخص ما"، و"النضال معهم من أجل التحرير". فهناك فارق بين تمكين الآخرين على التحرر، وبين تحريرهم. هناك فرق بين انتظار إنقاذ الغير لنا، وبين دعم قدرتنا لإنقاذ نفوسنا.

وهنا تظهر كلمة تضامن. فكيف يعرفها فريرى، وهي الكلمة التي تتكرر مرات لا تحصي في كتاباته؟

التضامن بالنسبة لفريري يعني "الدخول في حالة من نتضامن معهم" (ص ٤٩). التضامن هنا يتجاوز التعاطف. فبينما يجول التعاطف في نطاق الخواطر والمشاعر، يرتبط التضامن بالحركة وبالفعل. أي فعل إذن؟ أيعني هذا التنازل عن أي وكل الامتيازات التي أتيحت لنا؟ هل هذا طلب واقعي في عالم نلعب فيه دور القاهر والمقهور بنسب متفاوتة ومتغيرة؟

ردا على هذا التساؤل، يشرح لنا باولو الفرق بين الكرم الزائف والكرم الحقيقي. فالكرم الحقيقي هو الذي يمكن. فمن خلاله يقل احتياج أيادي المقهورين للمساعدة - خاصة من قاهريهم - فتصبح أياديهم قادرة على تحويل العالم (ص ٤٥). فكرم القاهر الحقيقي يحتم عليه تمكين غيره من كل جوانب حياتهم وقوت يومهم. والطرق لذلك متباينة ونسبية، فقد تتطلب أحيانا استخدام الامتياز لتمكين الغير، وفي بعض الأحيان الأخرى قد تحتاج إلي التخلي التام عن امتيازاتنا.

ولكن الأهم لتعميق التضامن في رأيه هو أن "يكف القاهر تماما عن استخدام "المقهورين" كفئة مجردة من إنسانيتها". التضامن يحدث فقط حينما تربط فكرة القهر المجردة بحيوات من يعيشون القهر يوما بيوم. حينما يراهم القاهر كبشر يعانون من الظلم، محرومون من أصواتهم، ومخدوعون في بيع عملهم. فالتضامن الحقيقي في هذه الحالة يصبح "مخاطرة حقيقية غارقة في الحب" (ص ٥٥).

تقول أنطونيا داردر في كتابها Reinventing Paolo Freire: A Pedagogy of Love أن إيمان فريري بالحب نبع من قدرة الحب علي تعميق الثقة في الغير. فالحب هو الذي تنتج عنه الثقة في قدرة طلبتنا على التصرف بإنسانية. والأهم فهو الذي يؤجج ثقتنا في قدرات أخواتنا في الإنسانية على تشريح واقعهم وتغييره. فيجب علينا أن نحب طلبتنا ونثق في قدرتهم علي رؤية امتيازاتهم و تشريحها. يجب علينا أن نسعي معهم لطرح أسئلة تدفعهم للمقارنة بين أوضاعهم المريحة و أوضاع غيرهم من البشر.

أما لب الأنسنة فهو قائم علي بناء علاقات حقيقية مع من لم تختارهم الدنيا ليكونوا أصحاب امتيازات. أنسنه تتجاوز الفروقات الطبقية، والعرقية، والجنسية، والعمرية، والجسدية وغيرها.

ففريري معروف بماركسيته، والتي بسبب ماديتها الجدلية جعلته حبيسا في خيال محبيه. حبيسا للمادة في فهمهم لكتاباته. نعم، يبقي الواقع المعاش بالنسبة له، كغياب المال والطعام والتعليم، هو المعيار الأساسي والملموس للقهر، وهو ما يجعل الصراع الطبقي القاسم المشترك بين جميع أنواعه. هكذا يؤكد علي قابلية لمس القهر ورؤيته. وفي اعتقادي، فإن تلك كانت محاولة منه لوضع شخصه علي مسافة ما من النسبية الأخلاقية التي يوصم بها البعض أفكار "ما بعد الحداثة"، و التي يصفها هو "بتمحورها حول ذاتها" لأنها "تحول الاعتراف بالقهر و آلياته إلى نوع من الصبر المعيق، الذي ينتظر اختفاء القهر من تلقاء نفسه" (ص 50).

من المهم هنا تذكير أنفسنا بأن أفكار فريري لم تكن فقط ناتجة عن ماركسيته، بل أنه تأثر بأفكار من كل حدب وصوب. ديوي أثر عليه بأفكاره التقدمية عن نسبية التعلم وحتمية حفر كل متعلمة لطريق التعلم الذي تحتاجه هي دونا عن الآخرين. كما أنه تأثر بالدين تأثرا عميقا، وبمدارس اللاهوت التحرري في أمريكا الجنوبية وخاصة تفسيرات جوستافو جيتيريز المتمحورة حول العدالة الاجتماعية، وانتفاضة المهمشين.

ولعل هذا التنوع الفكري يفسر تأكيد فريري على أهمية "التجربة الشخصية" في التباين في فهم القهر والإحساس به، لأن "إنكار أهميتها هو أمر ساذج ومبسط"، ويدعو بالتبعية إلى تصور لعالم "بدون أشخاص" (ص 50). فكل شخص له تفسيره الخاص بالقهر، والذي يرتبط بعدد لا يحصي من الصفات والخصائص الشخصية والبيئية سواء.

يقرأ الكثيرون منا فريري بعدسة ديالكتيكية، ويفسرونها بشيء من التصادمية، مما يشكل معضلة في فهم سبل تفاعل أطفالنا مع امتيازاتهم ومع غيرهم بشكل صحي يساعدهم علي أشكلة واقعهم و التعامل معه براغماتية تدفعهم لتغييره؟

فهل بإمكاننا تعليم أطفالنا معني التضامن الذي يطرحه فريري؟ تضامن يحركه حب الغير وأنسنتهم. تضامن حقيقي وليس زائفا؟

هل من مآل؟

هذه بعض الاستنتاجات الشخصية حول كيفية أشكلة تفاعل القهر مع الامتيازات عامة

١ - تجربة الطلبة اليومية هي أفضل مكان للبداية، حتى وإن كانت امتيازاتهم طاغية علي واقعهم. فشعورنا الشخصي بمشاكلنا حقيقي ولا يصح لفظه أو التقليل منه، حتى وإن بدي تافه بالمقارنة بمشاكل الغير. أعتقد أنه من المهم أيضا ممارسة وضع مشاكلنا في سياق أشمل و أعم. من خلال Problem Posing Dialogue أو الحوار المدفوع بالأسئلة، بإمكاننا دفع الطلبة للتساؤل عن أصل الأشياء وفهم الواقع. البداية من تجربتهم تدفعهم لفهم القهر الذي يمرون به بالرغم من امتيازاتهم.

٢- تشريح القهر وفهمه مفتاح لخلق معني واسع للتضامن. القهر الطبقي هو واحد من أنواع كثيرة للقهر. البنات في المدارس يعانين من القهر بالرغم من موقعهن الطبقي، من خلال ممارسات مدرسيهم أو في حياتهم اليومية. قدرات الطلبة الجسدية في أحيان كثيرة تؤدي إلي أشكال مختلفة من التنمر، كما أنا الفروقات الطبقية الطفيفة تؤدي في كثير من الأحيان إلي التنمر في المدارس الخاصة. تشريح هذه الأنواع من القهر واستكشاف تركيبها الذي يتقاطع مع الجنس، والعرق، والعمر الخ، باب لخلق تضامن حول القهر.

فكلنا قاهرون ومقهورات بنسب متفاوتة.

٣- أنسنة الآخر لا تحدث من خلال الكتب. التفاعل مع الآخر يأنسنها. طلبتنا قد يعانون من الانعزال المجتمعي، إلا أنهم في نهاية المطاف محاطون ببشر في دوائرهم المغلقة تلك. بإمكاننا اغتنام الفرصة لتطبيق أفكار فريري عن معادلة السلطة بين المدرس والطالب، عن طريق الإخلال بتوازنات القوة بينهم وبين من حولهم. إن كن محاطات بمربيات مثلا، فلنبني مناهج تضعهن في مواقع التلقي. من خلال تعلم شيء ما أو مجاورتهن لإدراك صعوبة العمل

٤- إعادة تعريف معني الكرم؟ الكرم أو التبرعات والصدقة كلها أشياء محمودة. أعتقد أن مشكلتها تكمن في تخيل أنها قد تؤدي إلي تغير جذري. مساعدة الغير مهمة، لأنها قد تؤدي في النهاية إلي تمكين البعض من معطيات الحياة. أزعم أن إدراك الفرق مهم. لنحاول دوما تجنب مساعدة الآخر، ولنسعي دائما إلي تمكين المقهورين.

.

المصادر:

Darder, A. (2017). Reinventing Paulo Freire: A pedagogy of love. Taylor & Francis.

Freire, P., & Ara, A. M. (1998). Pedagogy of the heart. Bloomsbury Publishing USA.

Freire, P. (1996). Pedagogy of the oppressed (revised). New York: Continuum.

عن مواجهة الامتيازات

مرة من كام سنة أستاذة جامعية قالتلي إن حمل التعامل مع وساخة الحمام سواء في البيت أو الأماكن العامة دايما واقع علي الست.

في البداية قلت لنفسي إيه الأفورة ديه. بعدين أدركت إن عمري ما كنت فكرت في الموضوع قبل كده .. لأني بكل بساطة معرفش.

فلما شرحتلي إن هي اللي لازم تشيل قاعدة الحمام وتنضفها في كل مرة بتخشه فيها، بينما الراجل عادي يطرطر عليها من غير ما يتأثر، فهمت قصدها لما قالت إن تصميم الكابينيه بيدي الراجل سلطة ... سلطة طرطشة طرطرته في كل حته لأن الكابينيه بيسهل المهمة علي اللي واقف، و بيصعبها علي اللي قاعد. و يشهد علي ده كم المرات اللي أمي هزقتني فيها و أنا طفل علشان أرفع القاعدة قبل ما أطرطر 😂.

بعدها عملت بحث سريع عن مصممي التواليتات و عرفت إن كلهم كانوا رجالة .. بلا إستثناء.

طيب عايز أتساءل هنا: هل أنا في الموقف ده شخص غير مكترث بحقوق الستات، ولا شخص جاهل، ولا الاتنين؟ بسأل السؤال ده بمناسبة البوست اللي داير و بيشرح فكرة الإمتيازات الطبقية و ظاهرة عدم إدراك الإنتربونرز الجدد من الأثرياء لامتيازاتهم ... وتخيلهم إن هم جابوا الديب من ديله و كده .. بوست عبقري و مهم. في آخر البوست فيه نقطة مذكورة عن عدم إلتماس الأعذار للي مش مدرك إمتيازاته "لأنه اتولد غني ومتعرضش لمشاكل الفقراء ديه".

الطرح ده مهم. مهم لأنه بيفرض علينا التفكير في تعريف كلمة "إمتياز" و مطها حبتين. إمتياز الفلوس في رأيي هو أهم إمتياز و أقواها تأثير في مجتمعنا .. بس فيه إمتيازات تانية كتير، زي إمتياز القدرة الجسدية، أو إمتياز الجنس، أو الدين أو اللون .. و غيره ..

أظن إن فكرة "أنا مش فاهم لأني ما شفتش" تستحق الدعبسة بدل من الحكم البات. و ده لأنها واردة تحصل مع كل أشكال الإمتيازات. و بتطرح تساؤل مهم عن مسؤولية التعلم عن الإمتيازات، و بتقع علي مين؟

هل هي بتقع علي الأطفال الأغنياء في مصر اللي في انعزال تام؟ ولا بتقع علي الأهالي؟ ولا علي المدارس؟ ولا علي الدولة ولا علي المجتمع؟ ... ولا علي الجميع؟ طب و إزاي نتعامل معاها؟ فيه مجال في الدراسات التربوية اسمه Intersectional privilege studies" pedagogy" أو "الدراسات التربوية في تقاطع الإمتيازات". هدفه الأساسي هو البحث في سؤال إزاي ندمج مواجهة الطلبة لامتيازاتهم الشخصية في التعليم و نفككها بشكل يشجعنا كلنا علي تغيير الواقع؟ واحدة من أهم النقط اللي بيأكدوا عليها هي إن لما نواجه الأطفال بامتيازاتهم الطاغية، لازم نوري إن هم كمان ضحايا إنعدام الإمتيازات في حالات تانية.

و ده لأن فيه مثلا أبحاث ورت تأثير المناهج المصممة خصيصا لإظهار الأطفال البيض في أمريكا كأصحاب إمتيازات. اتضح إن المناهج اللي مش بتتكلم غير عن إزاي هم مستغلين و مستفيدين من الوضع القائم بسبب لون بشرتهم - و هي حقيقة غير كاملة - في أحيان كتير بتكون ليها تأثير عكسي.

فبينتهى بيهم الحال مش عايزين يغيروا أي حاجة لأن الموضوع مش جايب همه ... ما إحنا كده كده شياطين و البديل هو خسارة كل حاجة.

يعني لما البنت تفهم إنها مظلومة أكتر من الولد اللي معاها في الفصل حتي لو بتشاركه نفس الطبقة الإجتماعية، علشان مش بتعرف تركب uber و تروح المول لوحدها، ممكن تنمي تعاطف أكتر مع بنات تانيين بالرغم من عدم مشاركتهن نفس الطبقة الإجتماعية.

و لما الولد الغني المسيحي يفهم إن القهر اللي بيواجهه فيه أوجه تشابه بينه و بين القهر اللي ولد مسلم فقير بيواجهه، يمكن يكون فيه أمل أكبر. في الآخر الإتنين مش بيعرفوا يخشوا أماكن. بس واحد مش بيعرف يخش المنتخب علشان دينه، و التاني مش عارف يخش الجامعة الأمريكية علشان ظروفه المادية.

و أن الولد اللي علي كرسي متحرك تجربته مع قاعدة الحمام شبيهة بتجربة البنات اللي معاه في الفصل.

يمكن لو فكرنا في طرق تشريح تقاطعات إمتيازاتنا من سن صغير بمختلف أنواعها، نقدر نقلل أحكامنا علي البشر باللامبالاة ... و نقلل معاها عدد الانتبررونرز اللي فاكرين إن هم يستحقوا كل شيء جالهم في العالم.

Weezy ويزي Baby

Safe sex is great sex,

better wear a latex

'Cause you don't want that late text,

that "I think I'm late, x"


تبقي كلمات الرائع Lil Wayne في أغنيته "Lollipop" دليل دامغ علي عبقرية الجمع بين الإبداع اللغوي و الحس الموسيقي المتفرد من ناحية، و الحفاظ علي رسالة هادفة لفنان واعي و مدرك لمعطيات عالمه من ناحية أخري. فقبلما تشرف أغنيته علي الإنتهاء ، يهم "ويزي" بمخاطبة معجبيه بنبرة رخيمة طغت عليها الحكمة ، ليقول "better wear a latex". هنا يقوم بدوره المهم ، فينصح إيانا بضرورة توخي الحذر عند الانخراط في أي فعل جنسي ، مؤكدا علي أهمية إرتداء ال Latex. و اللاتكس في هذه الحالة أداة لغوية غرضها الكناية عن الواقي الذكري ، و هي - لمن لا يعلم - مادة تستخرج من شجر المطاط و تستخدم في تصنيع "الكنادم" بشتي أنواعها.

إلا أن النصيحة لا تنتهي هنا ... فوين يدرك ذكاء جمهوره العريض من الذكور ، و يلحق نصيحته بسبب مادي و ملموس ليشرح أسباب إستخدام سبل الوقاية الجنسية. فهم بالتأكيد لا يطمحون لإستقبال تلك ال"late text" أو الرسالة النصية المتأخرة في منتصف الليل. و طبعا، لا يتركنا ويزي دون الإفصاح عن محتوي تلك الرسالة الغامض ، و التي تكتب فيها حبيبته أنها "late, x"، أي أن دورتها الشهرية متأخرة ، و أن الحمل يطرق باب العزوبية ... و هو بكل تأكيد خبر غير محمود في العلاقات العابرة التي يشير إليها ...

و من الجدير بالذكر ، أن حرف "X" يلعب دورا مزدوجا. فيحافظ Wayne به علي قافية بيوت الشعر تارة ، و يلمح به إلي تغير طبيعة العلاقة تارة أخري. فبتلك الرسالة ، ستتحول من علاقة عابرة إلي علاقة جادة تتطلب حدا أدني من "البوس و الأحضان" ، أو ما يوازيها لأمثالنا من جيل هواتف النوكيا بعدد لا بأس به من ال x & o. و هذا نظرا لسياق كتابة الأغنية في عام ٢٠٠٨ ، و مخاطبتها لجيل يختلف كلية عن جيل التراب هوب وعيا و موضوعا.

يختتم ويزي الأغنية بضحكته المعهودة و المصبوغة بدواء الكودين ... و هو الدواء الذي يدعي البعض أن إدمانه يضفي "بحة" مكتومة لصوت مستهلكيه ، مما جعله واحد من مشروبات عالم الراب المفضلة. و إذا أغلقتم الهواتف و سائر مفرزات الضوضاء السمعية ، و أنصتم جيدا ، فستجدونها بحة عبقرية هي الاخري ... تمزج بين وعورة بحة وسوف المليئة بالشجن ، و البحة الفؤادية الحنونة التي لطالما عهدناها ...

و دمتم

الله

ويزي

الوطن

" مصر ما فيهاش أمل يا ميستر"

" مصر ما فيهاش أمل يا ميستر"

الطالب قالهالي، قبل ما جرس الحصة يضرب بدقيقتين ...

بصراحة ماستغربتش ...

بس خفت ..

هل طبيعي إن الكلام ده يتقال من أطفال المفروض لسه عندهم مساحة و فرصة تخيل عالم جديد؟

بحب أصدق إن التعليم فكرته الأساسية هي تخيل عالم مختلف عن الواقع المعاش بتاعنا. مش بيكمله، ولا بيجمله .. لأ هدفه الأصلي هو إنه يحلم .. لازم يتخيل بلا هوادة بلد بشجر و حرية و فن و فلوس كتيير لكل الناس .. و بعد الانغماس في رسم الصورة ييجي دور سؤال: إزاي ممكن نوصل للحلم ده؟. كلمة الطالب خوفتني لأن دايما المراهقين بطبعهم ثوريين .. عايزين يغيروا، عايزين حرية أكبر .. و ديه أحلي حاجة فيهم ..

فلما يكون أقصي طموح لشاب صغير عنده ١٥ سنة إنه يتخرج و يتعين في شركة حلوة - لأن أي حاجة تانية ما منهاش فايدة - يبقي فيه حاجة غريبة .. المفروض ديه أحلام الهيمنة و الخضوع بتاعت العشرينيات علي الأقل ...خمستاشر ده السن بتاع عايزين نلعب fornite صبح و ليل .. ما ليه لأ، لو فيه أكل يكفينا كلنا، و تلفزيونات تكفينا كلنا ...

و ده كمان السن بتاع عايزين دنيا من غير تحرش .. دنيا من غير إمتحانات .. خمستاشر ده السن بتاع نغير العالم!

المدارس اللي بجد، هي اللي تحاول تخلق حوار حولين الأحلام اللي بتناقض الشارع و البيت .. و تدي مساحة إنها تتحقق .. حتي لو علي أضيق نطاق، اللي هو نطاق المدرسة نفسها.

للأسف هي ديه أكتر حاجة الأنظمة المتوالية في مصر نجحت في بثها من خلال منظومة التعليم القايمة. عرفت تخلي طموح الفرد يتمحور حولين ال "أنا" و اللي بيبدأ تشكيله من اللحظة اللي بنخش فيها المدرسة. في الممارسات و المناهج اللي فيها إحتكار تام للأنا لأي علاقة بيننا و بين المجتمع اللي حولينا. " أنا لازم أدخل عيالي أحسن مدرسة" ... "أنا لازم أجيب مجموع عالي في ثانوية عامة" .. "أنا لازم أحجز أول مكان في السنتر علشان أعرف أجيب مجموع" .. أهمية المدرسة و السنتر في الحالة ديه بتكمن في إنه مصغر لعالم أكبر ... عالم الأنا و بس. و حدود الإحنا بتاعته هي العيلة و الصحاب...

حتي محاولات الخروج بره "الأنا" في المدارس الخاصة مثلا، بينحصر أغلبها في اللي باولو فريري بيسميه " الكرم الزائف". الكرم بتاع يلا نوزع بطاطين الشتا علشان نحارب الفقر الكخه الوحش، بدون الانخراط في أسئلة حقيقية حولين طبيعة الفقر ده و مسببات بيات الناس سقعانة في الصعيد. ده حتي طرحنا للتاريخ في المناهج - فكله مرتبط بقصص الأنا ، مش بقصص "الإحنا" ... متلجم في شخصيات في حد ذاتها .. فالثورة العرابية بقت بتاعت عرابي، و ثورة ١٩ بتاعت سعد زغلول .. فمش بندرس تاريخ الجماهير و قصص المغمورين .. و بقي تاريخ الشخص بيعرف تاريخ المجموعة، بدل العكس .. فبقينا بندرس تاريخه ... مش تاريخ"نا"

تبعات ده بقي إن أي محاولة لخلق قصة جديدة، للأسف منتهية من قبل ما تبدأ. أصل القصص الجديدة محتاجة "إحنا" علشان تتكتب و يكون ليها معني .. محتاجة تخيل لعلاقات جديدة بيننا و بين بعض. و ده المفروض يكون دور أي محاولة جادة للاشتباك مع التعليم في البلد ... خلق علاقة صحية بين "الأنا" و "الإحنا".

فالمرة الجاية اللي تشوفوا فيها صور إفتتاح جامعة أو مدرسة جديدة، إسألوا نفسكم،

هل ديه محاولة بجد لكتابة قصة جديدة؟ قصة فيها حرية تخيل الإحنا؟

ولا إعادة نشر لقصة خيبانة قديمة بغلاف جديد للأنا ؟

- Air Force 1 رسالة في عشق جزمة - عن نايكي

af1.jpg

مش فاكر لا مكان ولا زمان أول لقاء ما بيننا ...أعتقد أننا في الأغلب اتقابلنا عن بعد في أوائل الألفينات ... في أوج بدايات عصر الدش ... ما كانش لسه فيه instagram ولا facebook ... التليفزيون كان لسه لا يزال الأب الروحي للتواصل مع العالم ... فاكر شفتك في فيديو كليب علي ميلودي و مزيكا، و اللي كانوا لسه في بداياتهم وقتها ... و لسبب ما محتوي الموسيقي الغربي فيهم كان عالي ...

ده نفس الوقت اللي موسيقي الهيب هوب بدأت تنتشر فيه حولين الدنيا ... بداية الألفينات كانت مرحلة تحول فارقة في تاريخ فن، كان إرتبط حتي تلك اللحظة بثقافة الأفارقة الأمريكان و معاناتهم ... و لم يتعدي ساعتها حدود أمريكا الجغرافية، بالشكل اللي حصل لأنواع الموسيقي التانية. ...

علاقتي الطويلة و الرومانسية بيكي كجزمة إرتبطت بولعي بالراب كمزيكا ... و الباسكت كرياضة .. و الهيب هوب كثقافة .. مش فاكر مين بالضبط كان لابسك أول مرة شفتك ... يمكن Nelly .. أو LL Cool J .. مش فاكر .. بس المهم إني في الوقت ده كنت لسه بستكشف موسيقي متمردة .. و إكتشفتك بالصدفة معاها ..

طفل مصري سيس علي أعتاب المراهقة، متربي في عائلة مصرية ميسورة الحال ، شاف في الراب مبتغاه للتحرر .. للثورة ... شفت ده في كلام الراب الحقيقي، اللي كان في أحيان كتير جارح و ذكوري، بس في نفس الوقت كاشف لصراعات بشر معرفش عنها أي حاجة ... في نبض البيت الثابت في مكانه و اللي كله تحدي صارخ لكل حاجة حوليه .. و في اللبس الواسع اللي كان بيعلن بكل ثقة أنه "حر" من أي قيود مفروضة عليه ..

في السياق ده بقي AirForce ما كانتش مجرد جزمة بشوف نجوم الهيب هوب لابسينها ... AirForce كانت بتمثلي حلقة وصل بين عالمين .. بين عالم موجود في مخي بسمعه في ودني، و إللي الWalkMan كان بوابتي ليه ... و بين شارع بمشي عليه، و حياة مرتاحة مش عاكسة بالمرة لعالم كله صراعات مع الفقر و معاناة مع عنف الدولة بأشكاله ...

فاكر لما كنت بتحايل علي أبويا يجيبك ... أصلك طول عمرك غالية بمقاييس بلدنا يا "غالية" ... و ياما أهلي حذرونى منك .. "إوعي تجيب جزمة بيضة .. بلدنا تراب و هتتوسخ من لبسة واحدة" ...

يمكن جزء من حبي ليكي كان لونك الأبيض و كل المعاني اللي وراه .. يمكن كنت عايز ألبسك علشان مثلتي تمرد علي إرادة أهلي، و اللي بطبيعة الحال كان شغلي الشاغل في السن ده ... بل و تمرد علي تراب القاهرة بذات نفسه .. بكل غباوته و جبروته ..

بس بالرغم من كل ده، قد إيه كانت كلمة "مبروك عالأرض" بتحز في نفسيتي .. لما واحد من صحابي ينزل بكل القذارة اللي في رجليه و يعلم عليكي .. قد إيه كنت مرعوب و بحاول أحميكي من أي مكروه .. ياما نزلت علي ركبي علشان أمسح أي خربوش أو وساخة .. لدرجة أني لغاية النهاردة بقفش نفسي و أنا بحط صباعي في بقي علشان أمسح حكة الرصيف من عليكي ...

بس كبرت ...

و بقيت بحبك متوسخة شوية .. ملبوسة و مدعوكة في ديك أم الدنيا ...

يمكن حبي للوساخة كان عاكس لنضج إنسان حاول يواجه نفسه في المراية .. و يشوف وساخته .. يتصالح مع جزء منها و يغير الجزء التاني ...

بدأت أشوفك علي حقيقتك ...

و بسبب ده علاقتنا تعقدت .. و كشفتيلي مع الوقت عن حقيقة مواقفنا المركبة.. و تداخل هوياتنا ...

مثلا، إزاي مثلتي بالنسبة لي طوق نجاة في بحر توهان المراهقة ... طوق علي شكل هوية أتشبث بيه.. علي شكل ثقافة عرق مضطهد بتبعد عني آلاف الكيلومترات ... و سخرية القدر بتكمن في إن الهيمنة الرأس مالية الأمريكية البيضاء علي لغتي و عقلي و تفكيري، هي اللي ساعدتني استكشف ثقافة أقلية قمعت من نفس قوي الهيمنة ديه ..

ثقافة إستمتعت و ما زلت بستمتع بيها ، و بحاول ألاقي طرق للتعامل مع ذكوريتها الفجة و تسليعها للمرأة .. اللي أكيد أكيد أثروا علي أفكاري و أنا بكبر ...

ساعدتيني أشوف الرابط المشترك بين معاناة البشر في مصر و أمريكا ... فاكر مثلا لما عرفت إن الجزمة البيضا في عرف ثقافة الأفارقة الأمريكان لازم دايما تفضل نضيفة .. فتعكس عدم الاحتياج لتوسيخها ، أو علشان تثبت القدرة علي شراء غيرها في أي وقت ... و هي ممارسة مرتبطة في الأصل بتاريخ العبودية و الاحتياج لإثبات البعد عن الفقر المتوارث ..

أنتي اللي خلتينى أشوف التقارب الشديد بين نضافة الجزمة النايكي و تطويل ظافر الخنصر (صباع اليد الصغير) في مصر .. و قد إيه ده بيعكس إنتماء لطبقة إجتماعية قادرة إنها ماتشتغلش في مهن توسخ فيها إيديها ..

علمتيني إن العالم معقد و مركب ... إن إزاي بالرغم من كون نايكي مملوكة لواحد أبيض، و إن مصممك راجل أبيض، تحولتي لرمز ثقافة مضادة ... إزاي بقيتي بتمثلي ثقافة شباب مدينة بالتيمور الأسود الفقير، اللي من عشقهم للعبة كرة السلة، حبوكي ... اللعبة اللي مثلت فرصة ليهم إنهم يخرجوا من تحت براثن الفقر .. و شافوا في لعيبتها قدوة شبههم ... فبقيتي مش بس رمز للعبة .. رمز لثقافة بحالها.

و إزاي مع تحولك لرمز، النظام عرف يستغلك و يعمل من وراكي مليارات بأنه يلبسك لكل رموز الثقافة ديه من مغنيين و لعيبة .. فحولك جزئيا لجماليات هشة بتعمق الفجوة الطبقية و العنصرية، بدل ما تحاربها .. جزمة بيشتريها السود، فتكسب مستثمرين مليارديرات بيض في البورصة ، و اللي بدورهم بيصوتوا لأحزاب عمرها ما هتعلي الضرايب علي نفس الشركة، حتي لو الضرايب ديه هي اللي هتحسن من مستوي معيشة نفس السود اللي بيشتروها ... ولا هتصوت علي تقليل تمويل الحكومة لشرطة بتتفنن كل يوم في قتل أصحاب البشرة السمراء ...

بس أنتي في نفس الوقت اللي حببتنيي في ثقافة الأفارقة الأمريكان، و خلتيني متيم بنضالهم و تاريخهم ... بدونك عمري ما كنت هتسحل مع مالكولم اكس، ولا مع هيوي نيوتن و تاريخ البلاك بانثرز ... أو علي الأقل كتبتي أكتر من سطر في حكاية رغبتي و شغفي في نزول مظاهرات Black Lives Matter أول ما جيت أمريكا ....

علمتيني إن رمزية الشيء نسبية ... مرتبطة بمين لابسك و فين و إزاي .. و إن معناكي في رجل واحد مصري في مصر، غير معناكي في رجل واحد أبيض في أمريكا ... معناكي في النادي، غير في المدرسة، غير في الشارع ..

و لما عرفت يعني إيه إنك بتتصنعي علي إيد عمال بيتدفعلهم ملاليم في جنوب شرق آسيا ... واجهتيني بضعفي في كل مرة بروح أشتريكي فيها .. علشان بحبك .. و بحب كل ذكري مرتبطة بيكي .. و إزاي بستغل رمزيتك في الفصل كمدرس بدون أي خجل، فيتفاعل معايا الطلبة علشان بلبس زيهن ... أو بستغل بشكل ضمني رغبتهم في إنهم نفسهم يلبسوا زيي، بس مش قادرين ... بكل ما يحمله الموضوع من إرهاصات فرويدوية و طبقية ... و استمرار لفخ الأنماط الاستهلاكية اللي وقعت فيها و ما زلت ...

عايز أقول لك شكراعلي تعقيدك لمعاني كتير ساعات بتبان كأنها عايشة لوحدها في فراغ الكلمات ... شكرا إنك إديتيهم معني و ربطتيهم ببعض ...

كلمات زي المنظومة و الثقافة و الاستعمار و الرأس مالية و التأثير و غيرها كتير ..

و بالأخص شكرا علي تعقيدك لمعني التواطؤ ..

لأن أغلبنا متواطئ .. بس بدرجات متفاوتة

إزاي مش لو - ٢

بسأل نفسي إزاي بتقبل شقاوة الولد عن شقاوة البنت في الفصل؟

إتربينا أصلنا علي إن الولد "عادي" يكون شقي .. فالشقاوة من شيم الذكور ... إنما لو بنت فالموضوع بيختلف شويتين ... الصورة النمطية للطالبة بتتجمع فيها صفات الطاعة و الشطارة و الكيوتنس ..

مش يمكن علشان كده رد فعلي بيكون أعنف مع البنت الشقية اللي مش خاضعة للقالب ده و بتتحداه؟ عنف بياخد شكل شخطة ، أو عقاب ... أو حتي مكالمة للأهل ... و اللي الولد في أحيان كتير لو صوته علَّي أو فَرَك، بعديهاله و بيفلت منها ...

هنا أرندت بتتكلم عن إن إزاي اللجوء للعنف بيحصل لما بنكون خايفين إن سلطتنا تقل .. بالنسبة لها علاقة السلطة بالعنف علاقة طردية ... كل ما بتكون قوي و مسيطر، كل ما احتياجك للعنف بيقل .. ما المسيطرين فشخ بوبات ... مش محتاجين أصلاً غير إنهم يقولوا بم ..

كلام منطقي ... و أمثلته عديدة ... زي كده ما الفتوات زمان كانوا نادراً ما بيخشوا في خناقات ... كلمتهم كانت مسموعة لحل الخلافات بدون أي لجوء للعنف ..الخناقة كانت عادة بتيجي لو فتوة تاني حاول يفرض سيطرته ... عنف بيتولد في لحظة بيزيد فيها الخطر علي سلطته إنها تقل .. و زي ما الأنظمة القمعية ما بتضربش حي غير لما بتشوف المظاهرة ... و ما بتسجنش غير لما بتحس بالخطر ..

حتي لو الخطر ده حاضر في مخها بس ... و الهدف غالبا بيكون خلق عبرة لمن يعتبر ..

تحليل أرندت يمكن يكون بديهي لناس كتير، بس أظن إنه بيساعد علي شرح جزء من عدم قبولنا لمشاغبة البنت ...

يمكن علشان اتعلمنا إن سلطة الراجل شيء طبيعي .. قادم كده كده لا محالة ... إنما البنت، فإزاي و إزاي تعمل راسها براسي ...

يمكن علشان كده شعورنا بالخطر من تحدي الولد لسلطتنا جوا الفصل بيكون أقل من البنت ... إحساسها غالبا بيشبه لو واحدة ست رقعت راجل علقة، إحتمال إن كرامته تنقح عليه بيكون عالي .. بس لو راجل .. هيقول لنفسه تمام .. ما هو راجل .. عادي يكون أقوي مني ..

يمكن جزء منها خوفنا علي منظرنا قدام ناس .. أصل الخوف في الأغلب نابع من كون فكرة البنت القوية ديه غريبة علي أذهاننا ... و خطر علينا كرجالة في نفس الحين ...

و يمكن خوفي الشخصي من قوة الستات في حياتي، بيتعدي مجال عملي في الفصل ... و بيظهر في نواحي تانية كتير ده مش مكان الخوض فيها دلوقتي ...

يمكن ..

إزاي ... مش لو

قابلني مقال قديم بس مهم ... بيتكلم عن تأثير أفكار المدرسين المسبقة عن دور الولاد و البنات في المجتمع علي تدريسهم في الفصل ..

لقوا مثلا إن المدرسين (رجالة و ستات) بيتقبلوا مقاطعة الولاد لكلامهم في وسط الحصة عن البنات ... و كمان إحتمال مقاطعة المدرس/ة للطالبات في وسط الكلام بتزيد عن نظرائهن من الأولاد ...

إكتشفوا إن المدرسين/ات بيميلوا إنهم يدوا مساحة للولاد للإجابة بعمق علي الأسئلة، بينما بيشجعوا البنات علي السكوت ...

مش بس كده ... ده حتي عملوا تجربة خلوا فيها الولاد و البنات يحلوا إمتحانات الرياضيات (math) بدون ما يكتبوا أساميهم .. في الامتحان ده البنات جابوا درجات أعلي ...

بس لما عادوا التجربة، و سابوا الأسامي اللي بتكشف عن جنسهم، المدرسين إدوا الولاد درجات أحسن ... و ده لأن فيه إنطباع سائد إن الولاد أحسن من البنات في العلوم و الأرقام ..

و عكس الانطباع ده حقيقي بردو في المواد اللي فيها لغات ... فكرة إن البنات أحسن من الولاد في المواد الأدبي اللي فيها كتابة و قراية متجذرة في الدنيا عامة ... علشان كده ممكن نلاقي إن في الكليات الأدبية نسب البنات بتزيد .. و العكس صحيح في كليات العلوم ..

ناس كتير بتفسر ده بأنه شيء في السليقة و في التركيب الرباني بتاعنا .. و في الحقيقة الكلام ده كله طلع هجص و فيه شك كبير فيه ... في مقالها "The myth of Pink and Blue Brains" ليز إليوت بتتكلم عن الفروقات بين تطور عقول البنات و الأولاد ...

إليوت بتوضح إن هم فعلا لقوا فروق طفيفة جدا بين الاتنين عند سن السنتين ... فالذكور مثلا نشاطهم الجسماني أعلي بنسبة بسيطة عن البنات، و عندهم ذكاء مكاني (بيقدروا يحسوا بالأبعاد و أماكن الأشياء) أعلي بنسبة صغيرة قوي بردو .. إكتشفوا كمان إن البنات قدراتهم علي التخاطب أعلي بنسبة صغيرة، بما إنهم بيتكلموا في المتوسط شهر أبدر من الولاد ...

بس الفروقات ديه مش كافية بأي شكل إنها تشرح الاختلافات الرهيبة اللي بتحصل بعد كده في القدرات .. و اللي إكتشفوا إنها بتزيد كل ما الأطفال يكبروا و عمرهم يزيد .. فليه فعلا البنات بتكتب أحسن من الولاد في المتوسط .. و الولاد أقوي في الرياضيات؟؟

الإجابة كانت موجودة في البيت ...

لما بدأوا يراقبوا بيوت الأطفال كل ما أعمارهم بتزيد، إكتشفوا إن إنطباعات الأهل عن قدرات عيالهم بتحدد بشكل كبير هم هيكونوا إيه .. فغرف نوم البنات كانت كلها كتب مثلا، بينما الولاد كانوا كل لعبهم كور و عربيات و LEGO و ميكانو .. فبالتالي عند البنات مهارات القراءة و الكتابة تم الاهتمام بيها، و عند الولاد مهارات الحركة و الذكاء المكاني كان عليها العين ...

فالفروقات اللي كانت لا تذكر، إنطباعاتنا عمقتها و زادت من حدتها ...

لازم نسأل نفسنا إزاي أفكارنا المسبقة عن الولد و البنت ممكن تأثر بشكل سلبي علي تدريسنا و تربيتنا في الفصل و في المدرسة؟ و خصوصاً خصوصاً لو احنا رجالة ...

إزاي ... مش لو ...

عن فرانكو و ثورة مدرسِّي كتالونيا

عد ما الحرب الأهلية الإسبانية خلصت سنة ١٩٣٩، نظام الجنرال فرانكو حاول بكل الأشكال إنه يثبت أنيابه في الحكم ... فبالرغم من الرخاء الاقتصادي اللي كتير من محللي الحقبة بيقولوا إنه حققه، إلا إن سمعته كنظام قمعي كانت دايماً سبقاه ... سجن لأي صوت معارض ... إخفاء قسري في معسكرات الاعتقال .. و جرائم وصلت لإغتصاب و هتك أعراض المعارضين ..

و طبعا، نظام فرانكو شاف في التعليم فرصة لترسيخ أفكاره في أجيال أسبانيا اللي هتكون ... بالنسبة له، ده كان أسرع طريق علشان يخلق أسبانيا ليها شكل واحد، و تاريخ واحد، و لغة واحدة ... تطغي بيهم علي الباقي ...

بس في الواقع، فلسفته ديه ماكانتش عاكسة لحقيقة بلد فيها أعراق عديدة، بتاريخ و ثقافات إختلفت عن أغلبية سكان أسبانيا (القشتلانيين) ... فجرم مثلا إستعمال لغات الكتلان و الباسك و الجاليكية في المدارس و الكتب ..

إهتمام فرانكو المنصب علي خلق شكل واحد للمجتمع "الإسباني" ، خلاه كمان يفرض أفكاره المحافظة في المناهج ... فرسخ لإن الست مكانها في البيت .. و أن الكاثوليكية لازم يكون ليها دور محوري في المجتمع ... و أرخ بأن إضرابات العمال جريمة في حق الوطن و أن المشاركين فيها خونة ...


الشعوب المقهورة في التاريخ لسبب ما بتعرف دايماً تكارك ... بتقدر تقوم بسرعة علي رجلها ... يمكن علشان كده الشمال الكتالوني المهزوم في الحرب الأهلية الإسبانية قدر يتعافى بسرعة ... و حاول يقدم حلول للتعامل مع نظام فرانكو، اللي كان مصَّر علي محو هويته و قصته ...

تمارا جروفز في كتابها "teachers and the struggle for democracy in Spain” بتتكلم عن إشتباك المدرسين الكتلان في الخمسينيات مع قضية التعليم تحت حكم فرانكو ... أغرب ما في الأمر بالنسبة لي ، كون أغلب المدرسين دول من مدارس خاصة ... جروفز بترجع ده، للحرية النسبية اللي كانت عند المدارس الخاصة، و فرصتها في أنها تناور بعيد عن سيطرة فرانكو علي مدارس الحكومة ...

ساعتها واجهوا معضلة إن نظام فرانكو قلل جداً من كفاءة المدرسين، اللي كل أساليبهم تمحورت حولين التلقين ... ما كانش فيه أي مدرسين يقدروا يطبقوا أفكارهم التقدمية، اللي مركزت التعليم حولين الأطفال و إهتماماتهم ..

فعلشان يحلوا المشكلة ديه، بدءوا في تقديم ورش صيفية تحسن من أدوات المعلمين .. واحدة واحدة لقوا إن الورش اللي بدأت بخمستاشر حد سنة ١٩٦٥ ، بقي بيحضرها حوالي ١٢٥٠ مدرس و مدرسة بعدها بتلات سنين بس ... و الحضور ما كانوش محصورين في إقليم كتالونيا، بل كانوا بيحضروا من مختلف أنحاء أسبانيا ...

و لما حبوا يختاروا إسم للحركة سموها حركة "روزا سنسات" .. إختيارهم لروزا كان إنعكاس لانتماءهم .. روزا المدرسة الكتالونية اللي طالما حرصت علي إحياء الثقافة الكتالونية قبل الحرب الأهلية .. و عملت أول مدرسة في الهواء الطلق .. و شجعت التعليم الحر .. دائماً و أبدا ...

الورش ديه كانت بتحاول تعَرَّف المدرسين علي أفكار التعليم "الجديدة" .. و تخليهم يتقبلوا تعبير الطلبة عن أفكارهم بالفن و الموسيقي ...

بس الأهم، هو إن مصممي الورش كانوا مدركين إن لحظة التحول الديمقراطي جاية لا محالة ..

وًده بحكم إن فرانكو كان كبر و مريض، و في آخر أيامه الضغط عليه زاد علشان التغيير يحصل .. المدرسين كانوا مدركين مسؤولية تحضير الطلبة للديمقراطية ... علشان يكون عندهم الأدوات إنهم في يوم ما يحكموا نفسهم .. و علشان ما يقبلوش تاني أبدا إن أي حد يحكمهم بالحديد و النار ...

في الوقت ده ورش "إدارة الفصل" (classroom management) ساعدتهم علي نقل الأفكار ديه للمدرسين ... فشجعوهم يقعدوا مع طلبتهم في دواير تساوي ما بين الكل ... و ده بدل ما يقعدوا في صفوف ورا بعض كلها بتبص علي المدرسين الواقفين في نص الفصل .. فتخلي المدرسين فرانكو في فصولهم... الملاك الوحيدين للسلطة و للعلم ...

دربوا المدرسين كمان علي إعطاء الطلبة الكبار مساحة أنهم يقعدوا في المكان اللي نفسهم فيه .. بدون سيطرة ولا غلاسة ... و وصلت لأنهم مرنوهم علي تقبل حرية الطلبة في أنهم ما يكونوش عايزين يشتغلوا .. و يسيبوا الفصل لو عايزين ... أو إنهم يقسموهم لمجاميع صغيرة تشجع علي التعاون، و تمنع إن أي طالب يستولي علي كل الضوء لأي سبب كان ...

أسبانيا تحولت للديمقراطية سنة ٧٨ ...

و بالرغم من إن لسه قدامها مشوار طويل علشان تحقق المساواة و العدالة الاقتصادية ... و علشان تواجه تراث تاريخها الاستعماري، إلا أن حركة روزا سنسات بتوري إن مساحات التغيير ساعات بتكون موجودة في أكتر الأماكن غرابة ..

مساحة زي المدارس الخاصة - شكلها من برا رأس مالي و بتساهم في الفروقات الطبقية بين الأغنيا و الفقرا - خلقت فرصة نادرة للمدرسين أنهم يساهموا بشكل مباشر في نشر أفكارهم و أساليبهم في أنحاء البلد ... و يغيَّروا

يمكن ما تغيرش لأفضل نسخة ليه... بس علي الأقل اتغير

خاطر عن المظاهرات و أمريكا و التراكم

في كتابه "The Long Haul"، مايلز هورتون بيتكلم عن تجربته مع التعليم الديمقراطي في النص الأولاني من القرن اللي فات .. هورتون إتربي في الجنوب .. و كونه أبيض بس من الطبقة العاملة، خلاه يكبر و هو بيتفاعل مع حقيقتين علي التوازي .. حقيقة كونه مستَغَّل بسبب فقره ... و حقيقة كونه في موقع قوة إستغلالي لأنه رجل أبيض ..

هورتون قعد سنين و سنين بيدرس إزاي ممكن يعلم و يتعلم مقاومة الظلم ... و إزاي ممكن يساهم في خلق مجتمع أكتر عدالة، بيساهم فيه أصحاب السلطة في تمكين من هم أقل قوة ...

و لأنه كان مؤمن إن إحتكار العلم و مركزيته من أكتر الحاجات اللي بتخلي الظلم يستمر، فتأثره بنموذج المدارس المجتمعية الدنماركية ما كانش صدفة .. بما إنها تحدت ثنائية المدرس و الطالب .. و أن مفيش حاجة إسمها إن المدرس بيملك المعلومة ... و إن الطلبة كل دورهم إنهم ياكلوا المعلومة بالمعلقة ...

في المدارس ديه، الطلبة بتجاربهم الثرية، كانوا دايما عندهم حاجة يقدموها و يعلموها للمدرسين .. و كانوا بيختاروا مباشرة هم نفسهم يتعلموا إيه، و إزاي يديروا تفاصيل يومهم بطريقة حرة ..


هورتون نقل التجربة للجنوب الأمريكي، بعنصريته الممهنجة و المؤسسية ... و أدرك إن التجارب الفارقة - اللي بتغير بجد - بتيجي عن طريق خلق إحساس جماعي بالانتماء لكيان واحد .. يكون الكل بيديروه مع بعض ... بيتعلموا فيه مع بعض و من بعض ... و فيستوعبوا إن كل أنواع الظلم بتأثر علي بعض .. و مرتبطة ببعض ..

ساعتها أسس مركز Highlander و اللي كان ليه دور محوري في حركة الحقوق المدنية و خلق شبكة منظمة من النشطاء السود و البيض ...

فالمركز مثلا أحد رواده كانت روزا باركس .. السيدة الجنوبية السوداء اللي معروفة بأنها تحدت الممارسة العنصرية، لما رفضت تقعد ورا في الأتوبيس .. في تحدي صارخ لقانون كان بيجرم علي السود إنهم يساووا راسهم "بأسيادهم" البيض و يقعدوا معاهم ... نكتشف مع السنين إن رفضها، اللي بيعتبر من الأحداث اللي أشعلت شرارة الحركة .. كان في الحقيقة نتاج تنظيم حقيقي .. و جزء كبير منه اتعلمته و حصل في المركز ..

هورتون حاول يلضم بين الحركة العمالية و حركة الحقوق المدنية .. لو فيه مثلا إضراب في منجم ، رؤوس حركة الحقوق المدنية السود كانوا أول من بيشاركوا فيه ... و العكس صحيح ... و ده في حد ذاته كان إنجاز .. فكرة إن عامل منجم أبيض يقف جنب راجل أسود في جنوب أمريكا علشان هدف مشترك، كان نقلة حقيقية في تاريخ الجنوب ..

مركز Highlander لغاية النهاردة مدار بأغلبية سوداء و بطريقة ديمقراطية .. و بالرغم من إن الحكومة الأمريكية قفلتوا كذا مرة، إلا إن خريجيه مكملين مشوار هورتون كان بدأه من سنين كتير ..

أنا "دِيُّو" (٣) - الدويتش فينا و ربنا هادينا

نهيت التدوينة التانية بالسؤال التالي:

هل الهوية المحلية ماكانش ليها أي مكان في المدرسة الألماني؟ و هل منهج المدرسة المستخبي كان هدفه خلق "كوميونيتي" مصري الشكل بس ألماني المضمون ... بقيمه و أفكاره و تقاليده؟


كلمة "محلي" ديه فيها إشكالية كبيرة أصلا ... ما هو يعني إيه "محلي" من الأساس؟ هل هو الإسلامي ولا المسيحي ولا الفرعوني؟ هل هو النوبي ولا البدوي ولا البحراوي؟ طب و لو إفترضنا إن الإسلامي جزء من "محلية" الهوية، هنختار أنهي فهم إسلامي بالضبط؟ أو أنهي شكل للمسيحية؟


بغض النظر عن تفاصيل التعريف، أي إدعاء بأن خصائص المدرسة الغربية محت كل أثر ثقافي محلي منها، هيكون إجحاف تام بحق الديو ... مش هنسى مثلا إزاي مدرس الدين كان بياخدنا نصلي في مسجد المدرسة .. المسجد ده كان قد الكنيسة مرتين ، و ده أكيد ليه دلالة، لو وضعنا في الاعتبار إنها في الأصل مدرسة إنجيلية .. ده غير إن كان فيه إهتمام ما بمادة العربي، و اللي في أحيان كتير بيكون غايب عن مدارس دولية تانية ..

أظن كمان إن مدرسين العربي و الدين ساهموا - إلي حد ما - بخلفياتهم المحافظة، في التأثير علي رمانة الميزان الثقافية، بمزيج جامع بين التطفل و حسن النية ... و ده بالرغم من إن آرائهم و تدخلهم افتقروا في أحيان كتير للزاوية النقدية اللي الجانب الألماني كان بيغذينا بيها ... آراء كانت مقيدة بتعريف المجتمع للصح و الغلط ... زي لما أستاذ العربي دردش مع ولاد الفصل مرة عن حرمانية العادة السرية، و إزاي إنها "بتخليك زي الحنفية" ... أفتكر كان قصده ساعتها سرعة القذف .. و ده رأي إختلف تماما عن طرح أستاذة الأحياء الألمانية، اللي كانت بتعلمنا إن ممارسة العادة السرية باعتدال شيء صحي و حتي مفيد ...

طبعا، تجربتنا كذكور كانت مختلفة تماما عن تجربة زميلاتنا المصريات ... و اللي بحكم الميل المجتمعي للسيطرة علي أجسادهن و تصرفاتهن، اضطروا يتعاملوا مع إختلافات العوالم ديه بشكل أعقد بكتير مننا، بين بيت و مدرسة و مدرسين (مصريين و ألمان) و مجتمع ... و ديه حاجة محدودية تجربتي، هتفشل في نقلها لو حاولت ...

مكان المدرسة الجغرافي بردو عقد فهمنا لإمتيازاتنا و هوياتنا ... فبجانب إن المدرسة كانت في وسط القاهرة .. بكل صخبها و حيويتها .. إلا إن تلاصقها مع "مدرسة الأورمان الثانوية بنين" كان ليه تأثير مش قليل علينا ... منطقي جدا إن بالنسبة لطلبة مدرسة من خلفية مختلفة ، شكلنا - بثقافتنا الدخيلة - كان شباب "سيس" مع بنات "مش تمام" ... و ده طبعا كان تربة خصبة كفيلة لبناء علاقة من الشد و الجذب، فرقعت أي إحتمال لتقوقعنا داخل بالونة المدرسة.

كنت زمان بشوف إن تداخل المساحات ده خلق ميكس بين المصري و الألماني، و خصوصية للمجتمع المدرسي ... بني فهم لواقع مصر "الحقيقي" اللي محتاج عدالة إجتماعية أكتر .. بس كمان إدراك "لعيوب" الشخصية المصرية اللي " لازم نغيرها" بالعمل الجاد و الدقة اللي من المفترض إننا اتعلمناهم من الألمان ...

بغض النظر عن صحة المقولة من عدمها - بما إن فيها شيء من الحقيقة و كتير من العجرفة - بتساءل لو العدالة الإجتماعية فعلا قيمة اتزرعت فينا ؟ العدالة بين المصريين و بعضهم .. و الأهم العدالة و المساواة بين ما هو ألماني و ما هو مصري؟

الإجابة علي السؤال ده فعلا صعبة ....

صعبة لأن المدرسة بلا شك كانت متأثرة بالثقافة الألمانية اللي العدالة الإجتماعية بتمثل شق مهم في تاريخها .. عدالة شفناها في التعامل مع الطلبة، اللي كل حد فيهم كان معرض للسقوط لو ماشتغلش .. و عدالة في التعامل مع المصريين ما بين أسوار المدرسة .. طلبة و عاملين ...

بس الحقيقة ديه مرتبطة إرتباط وثيق بحقيقة تانية، ممكن تبان عكسها .. حقيقة إن أغلب المناصب القيادية في هيكل المدرسة الإداري كانت للألمان ... فسلطة مسؤول الأمن كانت نابعة من إن ألمانيا، المتمثلة في ناظر المدرسة، كانت وراه .. سلطة كانت نابعة من إن أي مشكلة تحصل مع أي سائق أتوبيس، كانت بتُقابَل بالعقاب المباشر من "فراو" ب. - مسؤولة المواصلات و الأتوبيسات في المدرسة (فراو هي تسمية ميس بالألمانية) ... .. و هي سيدة ألمانية بتتحدث العربية بطلاقة، و بتتحكم في أسطول من السائقين المصريين اللي بيخدم كل طلبة المدرسة .

أعتقد إن ده أول باب لفهم تعقيدات منهج المدرسة المستخبي .. منهج رسخ جوانا إن مكان القوة "الطبيعي" موجود في كل ما هو ألماني ... سلطة رمزية ، رفعت من قيمة الألماني علي المحلي .. فالسلطة بجد كانت في الآخر في إيد الجانب الألماني ... والشطارة بجد كانت بتتقاس بأنك تجيبي درجات كويسة في المواد الألماني ... و ده شيء طبيعي، بحكم إن ده المعيار اللي هيقيموكي بيه لو حبيتي تقدمي علي جامعات في ألمانيا .. و بحكم إن المدرسين الألمان كان ليهم وضع (مادي علي أقل تقدير) أعلي من المدرسين المصريين بشكل عام ...

الإجابة معقدة لأن زي ما وضحت في التدوينة اللي فاتت، هيمنة الثقافة الألمانية كانت واضحة في أغلب جوانب المدرسة ..

بس يعني أنت متوقع إيه غير ده؟ ... أنت جاي برجلك للألمان، علشان تتعلم منهم ... و بعدين مش عاجبك نفس السبب اللي جابك من الأول ... ما كنتش تيجي لو ثقافتهم و تعليمهم مش راكبين عليك!

النقد - في ظني - عمره ما يمحي واقع إن المناهج المصرية قلما زغزغت مخنا .. وإن أغلب مواد الحكومة ما زودتناش بمهارات نبص بيها علي تاريخنا و تفسيرات أدياننا بعين نقدية ... و المدرسة الألماني قدمتلنا ده إلي حد كبير .. و ما زالت واحدة من أكتر المدارس اللي بتقدم خدمة تعليمية مميزة في البلد ...

بس شعار المدرسة رفع راية ال Begegnung أو "التلاقي الثقافي" .. و هنا يكمن مربط الفرس .. لأن لما تفتح مدرسة في بلد غريب .. بثقافة مختلفة و له تاريخ إستعماري مع أوروبا نهكه .. فيه مسئولية بتقع عليك ككيان أوروبي ... مسئولية فهم إنك جاي و فيه ناس شايفاك مخلص، و معاك الحلول .. مسئولية إنك متصدقش إنك مخلص بجد ... و إنك تقدم تلاقي ثقافي بيحقق تساوي حقيقي .. فيخلي الثقافتين بتفاصيلهم .. بحلوهم و ومرهم يكونوا راس براس ... ما فيش ثقافة فيهم بتحتكر تعريف الصح .. أو تعريف الحقيقة ...

و إن ممكن حقيقتين عكس بعض يتواجدوا في نفس اللحظة ... و الإتنين يكونوا صح ...

ياما مدرسين ألمان علقوا علي قلة النظام و الفوضي في الشارع المصري كشيء سيئ و عائق حقيقي بيخلق زحمة و حوادث ... حقيقة، مستحيل إنكارها .. بس مش بتنفي إن فيه جمال في الفوضي و العشوائية .. ما إحنا بنتعلم في خضمها إزاي نتعامل مع الغير متوقع ... مع فكرة إن إذ فجأة هتلاقي عربية كاسرة عليك من غير إستئذان، و لازم تتصَرَف .. فوضي بتعلمنا عن الحياة ... بمعناها الأعمق ..

هيمنة الألماني بتكمن في إن إحنا ماتعلمناش نشوف الجمال في العشوائية .. غالباً لأن العشوائية كانت بكل بساطة "غلط" من منظور غربي..

التبادل الحقيقي في إعتقادي المفروض يعكس إدراك إن دور المدارس الدولية مش فرض هوية بحد ذاتها علي الطلبة .. إن دورها الحقيقي هو مساعدتهم يكتشفوا هوياتهم المحلية .. يختاروا اللي يناسبهم منها، و يسيبوا اللي مش عاجبهم .. يدركوا هم ليه أصلا جايين يتعلموا في مدرسة ألماني في مصر .. و يسألوا هو ليه مفيش مدرسة مصري في ألمانيا ..

التبادل الحقيقي ما يرسخش إحساس بالامتنان علشان إحنا محظوظين إن الألمان قبلونا و علمونا .. إحساس مبني علي الفوقية ... التبادل الحقيقي يساعدنا نتحسس التعقيدات الحاصلة بين إمتيازاتنا في بلد ليها تاريخ طبقي و استعماري .. و بين وجودنا في مساحة - اللي بحكم نفس التاريخ ده - سلطتنا فيه أقل من الألماني .. و تساعدنا نتحدى إختلال التوازن ده و نغيره، حتي لو مش في صالحها..

بس في الآخر، المناهج مناهجنا، و العيب علينا ... فبالتالي تحميل المدرسة عبء إنعدام كفاءة التعليم المصري بأي شكل هيكون ظلم بين ... بس يمكن دور المدرسة الحقيقي بيكمن في إدراك منهجها المستخبي و تعديله .. يمكن دورها هو تدريب المدرسين الألمان علي فهم صورهم النمطية عننا .. لأنهم في الآخر جايين من ألمانيا متأثرين بإعلام طلعنا إرهابيين و همج و رعاع .. يمكن لو ده حصل، يقدروا يتحدوا أفكارهم المسبقة عننا في حصصهم و مناهجهم ... و يعلمونا نشوف الجمال في العشوائية ..

يمكن دور المدرسة هو تعيين مصريين أكفاء في مواقع سلطة فعلية، مش شكلية .. فيكونوا مثل حقيقي لينا، يتحدي عقد الخواجة و الدونية ... إن ناظرات المدرسة يكن مصريات و ألمانيات بالتقاسم ... دور المدرسة المفروض يكون إيجاد/ أو تأهيل مدرسين مصريين يدونا نظرة نقدية للذات، بدون ما تكون فيها تجني عليها .. يساعدونا نفهم إحنا مين و إزاي بقينا .. و ليه بنتعلم في البيت قيم غير اللي بنتعلمها في المدرسة .. و إزاي نلاقي مكاننا بين كل الحقايق اللي ممكن تبان مختلفة ديه ...


لما عبد الناصر فرض تعريب المدارس و رفع نسب المدرسين المصريين في المدارس الأجنبية، إدارة المدرسة كانت بتفكر بجدية إنها تقفلها تماماً .. و بعد محاولات مضنية مع النظام ساعتها، قدرت توصل لتحديد عدد مدرسين العربي، و إن الإدارة تكون تحت سيطرة الألمان كاملة ..

بصراحة أعتقد إن كفاءة المدرسة تم الحفاظ عليها، علشان ما تسابتش للنظام .. و في نفس ذات الحين، قرار إغلاقها في تقديري كان نابع من إيمان فوقي بأن المصريين هيجيبوها الأرض، و مش هيقدروا ينقلوا قيم الحرية، و تقدير العمل، و العقل النقدي الغربية للطلبة ...

حقيقتين عكس بعض و بيتواجدوا في نفس اللحظة ... و الإتنين يمكن يكونوا صح .

فهل نجحوا فعلا في تعليمنا التفكير "النقدي" - حتي لو بمنهج "غربي"؟

للأسف الإجابة مش هتكون بنفس وضوح السؤال ..

هتكون إجابة عشوائية ..

بس بلاش للأسف ..

الحمد لله إنها هتكون إجابة عشوائية ...

يتبع ..


مصادر:

Paulus, C. (2011). " Begegnung findet eigentlich nicht statt." Probleme von Begegnungsschulen im postkolonialen Kontext. ZEP: Zeitschrift für internationale Bildungsforschung und Entwicklungspädagogik, 34(2), 24-29.

أنا "دِيُّو" (٢) - عن المناهج المستخبية في المدرسة الألمانية

التدوينة اللي فاتت وعدت أني هحكي عن تجربتي الشخصية مع المدرسة الألمانية الإنجيلية بالدقي ، كذكر مصري خريج دفعة ٢٠٠٨... فيه حاجات كتير أكيد اتغيرت .. بس حاجات تانية فضلت زي ما هي .. و ديه محاولة للبعد عن أي تعميم و أي تقييم مبني علي ثنائيات الكويس أو الوحش ... محاولة لإستكشاف درجات الرمادي المتواجدة بين الأبيض و الأسود، و اللي خلت المدرسة يكون ليها ملامح بتخليها مجتمع .. بتخليها "كوميونيتي".


في علوم التربية، فيه مصطلح إسمه "hidden curriculum" أو "المنهج المستخبي" .. منهج موجود بين السطور .. في أفكار مستخبية بتتسرسب جوانا من غير مناخد بالنا .. زي كده لما نحل مسألة حساب كلامية بتحكي عن زوجة واقفة في المطبخ و يكون مطلوب مننا حساب مقادير الكيك اللي بتخبزها لأطفالها ... من بره المسألة شكلها بسيط ... منهجها "المتشاف" هو الجمع بين مهارات الطرح و الإضافة و الضرب .. بس المنهج المستخبي هنا بيكمن في التفاصيل .. في إختيار مصطلحات "زوجة" و "طبيخ" و "عيال" في جملة واحدة .. بيفرض أفكار عن دور الست و الزوجة في المجتمع... و لو استبدلنا كلمة "زوج" "بزوجة" المنهج المستخبي كان هيبقي موجود بردو، بس بأفكار معاكسة ..

المنهج المستخبي ده حاضر في جوانب مختلفة في حياتنا ... في الإعلانات و في كلامنا .. في الدراما و في تصميم المباني ... تفاصيله بتخلينا نقول في نهاية المطاف علي حاجات بعينها إنها "طبيعية"، و حاجات تانية إنها "غريبة" .. فده المنهج اللي محصلته غرست جوانا قناعات ما، زي إن المكان الطبيعي للست هو المطبخ ...

طب إيه طبيعة المنهج المستخبي الحاضر في المدرسة الألمانية؟ و إيه الأفكار و القناعات اللي مساحة المدرسة بتحاول تطبعها في حياة الطلبة اليومية؟


من أول وهلة، و شعور إن المدرسة الألماني غريبة و مختلفة عن البيئة اللي متواجدة فيها بيهيمن علي أي زائر .. قطعة ألمانية منحوته في وسط حي الدقي .. حي الدقي اللي بيرمز للطبقة المتوسطة المتعلمة بشرايحها المختلفة، هو في إعتقادي أحسن رمز لما تمثله المدرسة من إشتباك حقيقي مع إشكالية فكرة الكوميونيتي اللي المدرسة بتخلقها.

فمن اللحظة اللي بتدخلي فيها من البوابة، و اللي بيستقبلِك فيها ع. ك "مسئول الأمن"، و "ألمانية" المدرسة بتلاحقِك في كل خطوة .. ع. ك. ما كانش مسؤول أمن بالمعني المعتاد للكلمة في مصر ... بل حاجات كتير فيه كانت شبه الألمان (أو صورتهم النمطية بمعني أصح) .. دغري و واضح .. مالوش في اللف و الدوران .. منمق و هادي و متجنب لأي أفورة في ردود الفعل ... كان حاسم في مواقفه معانا و مع أهالينا سواء .. من غير أي مجاملات أو محاباة ...

في بداية الألفينات مثلا ، المدرسة جالها بلاغ كاذب بوجود قنبلة موقوتة في مكان ما .. طبعا حصل قلبان و هلع و نزلُّوا المدرسة كلها في الملعب .. بالنسبة لنا كطلبة الموضوع كان فرصة ذهبية لتضييع الحصص .. بس بالنسبة للأهالي القلق تمكن منهم، و كتير منهم تكابلوا علي البوابة علشان يدخلوا ... اليوم ده أثبت سلطة ع. ك. الحقيقية .. كان فيه قصة متداولة عن إزاي كان صارم في رفضه لدخول أولياء الأمور ... يوميها رجالة بشنبات و ناس واصلة في البلد وقفت عاجزة أمام سلطته في تحدي تام للأعراف الطبقية و الإجتماعية...

الصلاحيات اللي كانت في إيده، و قدرته علي تطبيقها بدون تهاون، هي مجرد لمحة و مقدمة "لألمانية" المدرسة، اللي كانت طاغية علي جوانب مختلفة فيها ... سواء كان في تصميم مبانيها بخطوطها الواضحة، و لونها البيج البسيط ... المُطَعَّم بألوان الأزرق و الأخضر و الأصفر و البرتقالي ... كل لون من دول كان بيرمز لمرحلة عمرية مختلفة ... و ديه حاجة إكتشفت إنها معتادة في المدارس في ألمانيا، بعد رحلة تبادل طلابي، المدرسة نظمتها للصعيد الألماني الجواني ...

أو في أسامي شوارع و ميادين المدرسة اللي كانت أغلبها بالألماني، و معظمها كان لمدراء المدرسة السابقين ... زي مثلا "كارل ألبان" ... حتي أشهر ملعب في المدرسة و اللي كنا بنتجمع عنده علشان نلعب كورة و سلة ، كنا بنسميه "Dokki Platz" .. و اللي ترجمته الحرفية معناها ملعب الدقي .. بسبب موازاته لشارع بنفس الإسم .. بس لسبب ما عمري ما سمعت حد فينا بيسميه "ملعب الدقي" ..

بالعربي.

حتي في الفصول، الهوية الألمانية كانت متواجدة بشكل أو بآخر ... بسبوراتها العريضة اللي بتقفل و بتفتح زي الكراسة، و بتجيب تلاتِربَع الحيطة و هي مفتوحة .. أو في دفايات الغاز المدهونة أبيض و متركبة بعرض الحيطة كلها .. الديو كانت أول مدرسة في حياتي أشوف فيها حنفية بحوض في الفصل .. لزوم الغسيل و النظافة و كده .. حتي في جودة الديسكات الخشب و الكراسي المستخدمة، المدرسة كانت ألمانية بشكل نمطي ... فبالرغم من هلكنا ليها كانت نادرا ما بتتكسر ..

شكل الحرية جوَّا المدرسة كان هو كمان مختلف عن بقية البلد ...في الدِيُّو مثلا كان من حقك تلبس اللي أنت عايزه ... عايزة تروحي المدرسة بشبشب زَنّوبة، براحتك ... عايز تلبس شياكة بردو تمام ... حرية اللبس ديه في إعتقادي ظهر معاها بردو أشكال من الضغط المادي علي الأهالي للحاق بركب الموضة و الماركات .. بس كمان خلقت أنماط إستهلاكية مربوطة بألمانيا .. خصوصا في السن الصغير ... زي مثلا الشنط ال Scout اللي كتير من الأطفال شالوها علي ضهرهم .. شنط صفرا و مربعة و ليها شكل فريد، و طبعا ألمانية بامتياز .. أو المقالم و أقلام الحبر اللي بتتجاب من ألمانيا .. أو صنادل Birkenstock الجلد .. بغض النظر عن تمن المنتجات ديه .. بس رمزيتها كانت بتعكس إرتباط موجود حتي في أنماطنا الاستهلاكية ...

كطلبة تفاعلاتنا ما بيننا و بين بعض كانت محكومة بمباديء علمانية بحته ... مبدأ خليك في نفسك ، و أنت حُر ما لم تضُر ... المدرسين مثلاً ما كانوش بيتدخلوا، لو ولد و بنت باسوا بعض في الحوش .. بس ده طبعاً كان مقبول من زمايلنا الألمان أكتر مننا المصريين ... في حالات كتير المدرسين المصريين، كانوا ممكن يحمّونا بكلام حاد، لو شافوا منظر مش عاجبهم .. بس كان كلام .. كنا عارفين إن ما كانش عندهم سلطة فعلية يوقفوه..

و في الحقيقة، هامش الحرية الواسع ده مش معناه إن أولياء الأمور ارتضوا بيه بمحض إرادتهم .. بل بالعكس، كتير منهم كانوا محافظين .. إلا إن ده كان من التنازلات الأساسية اللي كان ينبغي إستيعابها و هضمها لما خدوا قرار إلحاق أطفالهم بالمدرسة ... معروف مثلًا إن المدرسة طلبت من الأهالي في الحضانة تحضير نفسهم لفكرة إن أول بوسة لولادهم هتكون فيها .. و إن ده شيء طبيعي و لازم يقبلوه ... شيء ممكن ناس كتير تستغربه ... بس طبعا طرق تعامل الأهل مع الحرية ديه كانت متفاوتة و مختلفة .. و ده موضوع يتكتب فيه تدوينة لوحده -

اللي بيقرا غالبا بيتساءل دلوقتي .. أمال فين الهوية المحلية في كل ده؟ كل الصفات ديه بحلوها و مرها ، بتعكس هيمنة ألمانية بشكل ما ... فهل ده معناه أن الهوية المحلية ماكانش ليها أي مكان في المدرسة الألماني؟

و هل منهج المدرسة المستخبي كان هدفه خلق "كوميونيتي" مصري الشكل بس ألماني المضمون ... بقيمه و أفكاره و تقاليده؟

و ليه أصلا فيه أهالي مصريين ممكن يقبلوا بالمعادلة ديه لو حقيقية؟

يتبع ...

أنا "دِيُّو" (١) - عن المدارس الدولية و الكوميونيتي و أشياء أخري

لما سُئِل عن الكوميك بتاعه، اللي بيؤرخ للحياة في برلين في العشرينيات، و عن إستخدامه لجرايد من الحقبة ديه كمصادر لإبداعه، رسام الكوميكس جيسون لوتس شبه التاريخ الإنساني بالنهر العريض المتدفق ... و اللي كل قصة من قصصنا فيه، ما هي إلا عبارة عن سرسوب ميَّه، مستحيل تفرقه عن اللي جنبه .. كل سراسيب الميَّه ديه بتخش علي بعض و بتكون في الآخر نهر كبير أو قصة كبيرة متكونة من مليون قصة، متلعبكة في بعض.

الأجمل في التشبيه، هو تصويره لصفحات الجرايد كحجر مرمي في وسط جريان الميه القوي .. كل حين و التاني فيه قطرات بتطرطش عليه علشان تسجل لمحات من قصص ... قصص قد تكون مزيفة بشيء من الحقيقة .. أو حقيقية بشيء من الزيف.

حسيت إن التشبيه ده بيمثل أحسن طريقة إني أفكر نفسي أولا و أخيرا، بقد إيه الشهادة ديه مش مهمة ... هي شهادة شخصية عن تجربة ليها خصوصيتها زي كل تجربة تانية في الدنيا ... شهادة مكتوبة بمحاولة لإدراك الإمتياز اللي خلاها تكتب في الأصل، و تصدق في أحقية الحجر بتاعي إنه يترمى في نهر التاريخ الإفتراضي ... مكتوبة بإيمان حالي إن شهادات المستضعفين ليها كل الحق في نصيب الأسد في نهر التاريخ، بدون أي تمجيد كداب للمقهورين .. وبقناعة إن أهميتها الوحيدة تكمن في كونها سرسوب ميه آني في نهر ملايين الشهادات الحية في ذاكرة من عاشوها، عن إشتباكات حصلت مع التعليم المصري بكل أنواعه و أشكاله.

و دمتم


لغاية النهاردة شكل أمي محفور في مخي .. مش هنسى أبدا نظرتها و هي مليانة فخر و إنشكاح، لما فتحت ظرف القبول اللي علم ألمانيا كان منور عليه، و كان مكتوب جنبه بالبنط العريض "المدرسة الألمانية الإنجيلية بالدقي" .. فاكر إزاي يوميها أمي عصرتني جامد بين دراعاتها لمدة لا تقل عن دقيقتين ... كنت بحاول أفلفص منها بأي شكل لأني مكنتش عارف آخد نَفَسي .. فاكر كمان إني ما كنتش فاهم الحماس ده كله جاي منين .. ساعتها كنت علي أعتاب رابعة إبتدائي ... و هي كانت خدت القرار المصيري إنها تنقلني من مدرستي اللغات الناشونال لمدرسة جديدة، المفترض إنها "أحسن" ... شخصيا، ما كانش عندي أدني فكرة اشمعني المدرسة ديه، ولا ليه هي أحسن ... بس حصل ..

أعتقد إن سعادة أمي اللي حسيتها من حوالي عشرين سنة كانت كاشفة عن حاجة، مبدأتش آخد بالي منها غير مؤخرا. الفخر بتاعها ده، لاحظت مع الوقت إنه تسلل لي بشكل أو بآخر. نوع من الكبرياء، علي طول بيبان في عيون كتير من عشيرة الديو، أول ما بنكشف للمستمع عن انتماءنا المدرسي ..صوت متغطرس ممكن ناس كتير ما تعترفش بوجوده .. لمعة ما، بتعكس إعتزاز غير معلوم مصدره.. بس هو مش إعتزاز فج لدرجة تخليه تعالي .. هو هادي و مستخبي و مغلف بثقة صعب تحط إيدك عليها .. ثقة تتحس في الحركات المستخبية .. في المشية و طريقة الكلام .. ثقة تتشاف في بصَّة بتقول أنا مش محتاج أثبت نفسي لحد ...

لأني ديو.

بس إيه سر الكبرياء المتخفي ده ؟ إيه الجديد يعني في الموضوع .. مدرسة كويسة زي أي مدرسة تانية بفلوس في مصر، اللي الطبقية و أوسخ أشكال الرأس مالية متمكنة منها . عادي مدرسة إنترناشونال بتدي لغة تانية مهمة، و شهادة تخليكي تعرفي تسافري ألمانيا و تتعلمي هناك زيك زي أي مواطنة معاها الجنسية ... بس تاني، كل ديه حاجات عادية و بديهية موجودة في أي تعليم بفلوس في البلد ... في رأيي الأسباب ديه مش كافية للإجابة علي سؤالي ... الشعور الدفين بالاعتزاز ده جاي منين ؟

أفتكر إعلان مدينتي اللي الدنيا مقلوبة عليه، بيحمل بين طياته ملامح الإجابة .. خصوصا في مفهوم "الكوميونيتي" اللي الإعلان طرحها و وصفها بأنها "كلها شبه بعض" .. نتفق أو نختلف، فتواجد مجتمعات المدارس الخاصة الدخيلة بأفكارها و مناهجها، ما هو إلا شهادة علي فشل الدولة في إنها توفر تعليم محترم .. نتفق بردو أو نختلف، فالمدرسة الألماني كوميونيتي واضح و صريح المعالم، طبقا للتعريف المذكور أعلاه. مجتمع متجانس إلي حد كبير و له صفات نمطية بتجمعه، بتخلي أعضائه يحسوا بالانتماء ليه بشكل أو بآخر .. فيه ناس مثلا بتشوف خريجي الديو عيال بيض و مكلكعه و شايفة نفسها ... و فيه اللي هيشعروا فينا و يقولوا شغيلة و دغري و دماغهم حلوة .. و فيه كمان اللي مش هيشوفنا غير كشوية عيال فرافير متدلعة إشترت تعليمها بامتيازاتها ... و فيه اللي شايف العكس تماما، و بيقول إننا بنات/ولاد بلد و متأسسين كويس في العربي.

الإجابة في الأغلب موجودة في مكان ما في النص بين كل الصفات اللي تم ذكرها. أصل الديو أي نعم مدرسة دولية، و لكن طبيعتها تختلف عن مدارس إنترناشونال كتير تانية .. فكلفتها مثلا بالرغم من كونها عالية إلا أنها في نفس الوقت نسبيا أقل بكتير من مثيلاتها من المدارس اللي بتقدم نفس الخدمة ...

في سنة ٢٠٠٠ مثلا مصاريف المدرسة كانت ٥٠٠٠ جنيه مصري ... المدارس اللي زيها كانت بخمستاشر ألف و أنت طالع ...

جزء كبير من ده راجع لكونها مدعمة جزئيا من قبل الحكومة الألمانية، اللي تبنت سياسة التلاقي الحضاري "Begegnung" في السبعينيات لنشر الثقافة و تدعيم التواصل بين ألمانيا و دول كتير في العالم. الكلفة "المتوسطة" ديه كانت بتخلي أهالي كتير تيجي علي نفسها علشان تدخل أطفالها المدرسة .. و الحقيقة إن كل كام سنة، كان فيه إشاعات بتطلع ما بيننا إن الحكومة الألمانية هتقلل الدعم، و أن المصاريف هتتصاعد .. بالنسبة لي شخصيا، ده كان في أوقات بيمثل ضغط مادي علي أهلي .... بس هي ديه نفس الظروف اللي خلت النسيج الإجتماعي بتاع المدرسة مركب و فيه خلفيات إجتماعية و دينية و ثقافية متباينة. ما بين أهالي متدينين، و أهالي ملاحدة ... و ما بين أهالي عندهم قومية مصرية عتيدة و أهالي تحسهم بيمجدوا ألمانيا فوق كل شيء ...

و بلا شك ، كوميونيتي المدرسة الألماني نتاج مصر الطبقية .. بس حتي الطبقية ديه ليها أبعاد كتير .. لذلك تحليلها لازم يتجاوز محدودية العدسة الماركسية لفهم فكرة الكوميونيتي، و ينقلنا لما هو أكثر إدراكا للعوامل اللي خلت المجتمع ده يبان متجانس من الأساس - بالرغم من تفاصيل الاختلافات اللي ذكرتها - و مخلي مرتاديه عندهم إحساس عام بالتفرد.

زي إن المدرسة الألماني نتاج مدارس تبشيرية دخلت البلد في عصر الاستعمار - و اللي كل فصيل و جنسية فيها كان ليه خصوصيته بالمناسبة. فالألمان الإنجيليين مثلا كانت فلسفتهم و عقيدتهم التبشيرية مختلفة تماما عن الفرنسيسكان الكاثوليك ...

و إن ثقافة المدرسة نتاج تاريخ ألماني معقد - تاريخ بسط لأوروبا هويتها الفكرية المعاصرة بإرثه الفلسفي و السياسي، و ليه ماضي إستعماري نادرا ما بنتكلم عليه .. ده غير طبعا النازية اللي عرفت القرن اللي فات، و محاولات ألمانيا المستميتة لتغيير الصورة ديه ...

حتي "كوميونيتي" المدرسة الألماني ده، متأثر بعلاقة معقدة مع الخواجة اللي الألماني بيمثل فيها المنقذ بعلمه و تفكيره العلمي .. و بيمثل الشيطان بمعاييره العلمانية .. و طبعا نتاج لفرد الدولة الناصرية لعضلاتها علي التعليم الأجنبي في مصر ...

هحاول الفترة اللي جاية استكشف إزاي التفاصيل ديه كانت بتُجَسد في تعاملاتنا اليومية و في المواقف اللي قابلتنا كطلبة مع بعض ... و مع المدرسين - اللي أغلبيتهم كانوا ألمان ... و مع أهالينا اللي أغلبيتهم كانوا مصريين ... تفاصيل منقوشة في جماليات المدرسة ... في مبانيها و لبسنا ... و حتي في أكل الكانتين بتاعها ... لأن في نهايه المطاف تراكم الممارسات ديه هو اللي خلق ثقافة خلتنا نعرف نفسنا كجماعة .. ككوميونيتي ...

كدِيُّو

يتبع

علمني أونلاين

‫أحلي حاجة في موضوع نقل الدراسة أونلاين، إنه بيواجهنا كمدرسين بأي نواقص أو عيوب في أساليبنا التعليمية ... و الحقيقة مافيش مدرس/ة في الدنيا (حتي أجعصهم كفاءة و أكثرهم إبداعا) ما عندهمش "لزمات تدريسية" .. حركة أو روتين بيرجعولهم كل ما بيتزنقوا أو بيزهقوا .. فيه مثلا كتير مننا عندهم نزعة لإلقاء المحاضرات في الفصل .. بيحبوا يعيشوا في دور عبد الناصر ... دول أغلب الظن كان نفسهم يسلكوا العمل السياسي أو فشلوا في التمثيل، فقرروا يطلعوا مواهبهم المكبوتة علي الطلبة ... بيفضلوا يتكلموا تلتين الحصة لحد ما العيال تشَخَّر و ماتكونش طايقة تسمع صوتهم تاني يوم .. أعتقد إن دول مش محتاجين أي حاجة في العالم غير كاميرا و سابورة لنقل المهنة للعالم الإفتراضي .. و هاتك يا رغي بقي ... هنا طبعا الطالب هيقوم بكل بساطة و أريحية قافل فيديو المحاضرة و فاتح Call of Duty. و ده لأنه إنسان بيفهم و بيشغل مخه ... مدرك إن طبيعة السلطة في اللحظة ديه اتغيرت و ما بقتش مع المدرس .. ما هو مافيش درجات، و مافيش زعيق ولا عقاب ... بس فيه زراير minimize و pause و delete. ‬

‫فيه مننا برده المتعودين علي روتين معين عمرهم ما بيغيروه ... نمط رتيب مستحيل كسره ... حاجة كده شبه النظام التالي: محاضرة - ربع ساعة، قراية - ١٠ دقايق، إجابة كتابية علي الأسئلة - عشر دقائق كمان، مناقشة الإجابات - خمسة عليهم، و نختم طبعا بخمس دقايق في آخر الحصة، لزوم المشاركة و إختلاف الرأي لا يفسد للود قضية و كده. فيه كمان نوع تالت من بتوع "الإبداع المسيطر" .. دول بقي يدوك إيحاء الإبداع .. بوسترات و أفلام و حاجات شكلها حلو .. بس كل الفيديوهات و البوسترات سبحان الله في الآخر بتطلع نسخة طبق الأصل و شبه بعض في كل حاجة .. و ده لأن المدرسين دول بيكون عندهم شكل واحد للإبداع. فكرة مسبقة عن الإبداع الحلو و الوحش .. عن الصح و الغلط .. فالفيديو الحلو شكله لازم يكون كده، و الرسمة الصح مينفعش يكون فيها ده. أفتكر المدرسين اللي بيعملوا ده هم أخطر نوع، لأنهم في الحقيقة بيقيدوا الإبداع بدل ما ينموه ... بيخلقوا مناخ من السيطرة المقنَّعة، لأنهم بيكونوا محتكرين للإبداع .. و في نفس الوقت، بيغذوا في الطلبة فكرة إن الإبداع ليه شكل محدد، لازم يطبق بحذافيره. ‬

‫مش عايز أزعم إن فيه شكل غلط و صح في التدريس .. فيه لحظات بتحتاج كل أسلوب من أساليب التدريس اللي تم طرحها، بناء علي الموقف و الاحتياج .. إلا إن موضوع نقل الدراسة أونلاين بيدينا فرصة نعيد صياغة علاقتنا مع التعلم بشكل عام، و إعادة تعريف علاقتنا مع الطلبة بشكل خاص... العالم الإفتراضي بيحطنا في تحديين حقيقيين. التحدي الأول ليه علاقة بالإخلال التام بموازين القوي اللي النظام التعليمي أسسه قائمة عليه .. ما إحنا في الفصل متعودين نكون ملوك المكان .. كلمتنا مسموعة .. بنأمر و بننهي .. و لما بنتنازل عن سلطتنا بيكون بمزاجنا .. و ده لأننا دايما عارفين إن فيه أدوات قسرية تحت أمرنا، ممكن نستدعيها في أي لحظة بنحس فيها بالخطر، بسبب تقصيرنا أو عدم كفاءتنا في أحيان كتير ... فممكن نشد إنتباه الطلبة و همَ ملانين بالزعيق، و ممكن نغصبهم علي السكوت بالدرجات، و في أسوأ الحالات ممكن نوقف الشقاوة بالفصل أو العقاب ... (و كل ده طبعا لا يمنع إن ساعات فيه طلبة بنت ستين كلب مشاكلهم أعقد بكتير من إن مدرس يحلها). بس في كل الأحوال الإنترنت بيغير من طبيعة الأدوات ديه و بيقلل من حدتها، مع إنه مش بيلغيها.‬ ‫ ‬ ‫التحدي التاني، ليه علاقة بالأول بس مرتبط أكتر بشق الممارسة التربوية ... نقل تجربة التعليم التقليدي أونلاين بيفرض علينا نعيد تعريف جغرافيا التعلم ... بيزقنا نشوف الجغرافيا بمعناها العام و الأشمل .. كمساحات بتتجاوز الملموس و المطلق .. في الحالة ديه المساحة مش بتكون مقصورة علي الفصل .. مش بتتكون بس من أربع حيطان، و مش شرط خالص تتقاس بالمتر. الفصل دلوقتي بيتحول لشيء إفتراضي، فبيتغير معاه طبيعة التفاعل و الفهم. دلوقتي مثلاً عندنا فرصة لتجاوز الكتاب كمساحة محدودة جدا للمنهج، و نبدأ نبص علي تيك توك و فيسبوك و انستاجرام و يوتيوب كمساحات عندها المناهج بتاعتها، إللي في الأغلب تأثيرها بيكون أعم و أشمل، من أي حاجة بنزغطها للطلبة. ‬

‫ممكن مثلا نحلل هاشتاج كورونا و نختبر تويتر كمساحة، بتعكس مصر الملموسة .. و نشوف إيه الأنماط اللي بتخلي الناس تتفاعل مع خبر معين و خبر تاني لأ .. أو نشوف مع الطلبة إزاي مثلا فيديو زي بتاع مي الخرسيتي انتشر، و نحلل معاه المصدرين اللي هي هريانا بيهم، و نقيمهم. بالطريقة ديه، فهم الطلبة لما تمثله كلمة مصر ممكن يتعقد لأنه بيدي معاني تانية كتير لحاجة زي الإنترنت، بنقضي عليها أوقات مطولة. "مصر" في الحالة ديه بتبطل تكون مقصورة علي الأبنية و الطرق .. و بتبدأ تتعدي الأفكار النمطية عنها كوادي و دلتا و بحرين بجو دافيء شتاء و معتدل صيفا ... في المقابل بيكون فيه فرصة نتعلم مع طلبتنا إزاي فيه مزج بيحصل بين الملموس و الإفتراضي - و الطرق اللي بيأثروا بيها علي بعض .. إزاي مثلاً فيديو علي مساحة "افتراضية" عن كورونا كمؤامرة أمريكية صهيو-صينية، ممكن يأثر علي سلوك الناس في الواقع، و يخليهم ينزلوا و ينشروه .. بل و يكون ليه تبعات حقيقية و ملموسة علي الناس اللي بنسميهم "مصريين" في كتاب الدراسات دول. ‬

‫الحقيقة، أنا لسه بحاول أكتشف طبيعة المساحات اللا نهائية ديه، و سبل إدماجها .. التدريس في الآخر ممكن يكون رحلة لا تنتهي من التجربة المستمرة ... بس الأكيد ، إن فيه فرصة نكسر القيود اللي بتتحط علينا كمدرسين، و نتعامل بذكاء و إبداع مع واقع جديد بيجبرنا علي المساواة بين سلطتنا و سلطة الطلبة بتوعنا.

الغريب في الأمر

الثورة بقت سجن في مخي

الثورة بقت في سجن مخي

قضبانه من سراب محسوس

أسيرة خيال حابس

ماهوش محبوس

ييجي يوم يفكر يكارك

يتقال له بم .. فينام

و يصبح تاني يوم مخروس


الغريب في الأمر

إن قضبان السجن

ما بناهاش سجان

الحقيقة في الحقيقة

إن سجان عقلي

بقي أنت يا صاحبي

في أغلب الأحيان


آجي أسألك ليه المقاوحة و السلام

اتاريك مرعوب لتفقدها

كأنك شاريها و مالكها

و كيفك تداويها بتكرار الكلام

معقولة للدرجه دي خوفك عليها

... خلاك جبان

علي طول محجمها، ملجمها

فكرك إنك حاميها، مسستمها

و في الواقع أنت بتردمها

يا تفضل معاك و تسجنها

يا ترميها البحر

شكلك نسيت

إن الفكرة

زي الهوا في خفتها

مبتتنحتش في صخر

الحقيقة في الحقيقة إنك يا صاحبي طلعت بشر

فشر، إللي يقول عليك كداب

شجاع في صمودك

أناني في بطولتك

عنيد في ردودك

بيغويك خلود، نفسك تكتبه بحروف من دم

ما تشيلش هم

مش بيغريك لا مال ولا جاه

لكن بتغويك روايات البطولة

بكل إمعان

عايز صورتك أنت بس تفضل في الميدان

بين ثنائية الوطن و الغربة

أربع سنين عدوا ... أربعة بحالهم في الغربة و الخامسة في السكة .. فاكر في الأول قد إيه الخطة كانت واضحة ... تطلع تاخد الماچستير و ترجع تكمل هنا. ساعتها - في ٢٠١٥- ملامح الاكتئاب كانت خيمت علي أقرب الحبايب .. الحلم الرومانسي لمستقبل ما كان بيختفي .. معالمه الغير واضحة من البداية، بدأت تنهار، و علشان نتأقلم، أقنعنا نفسنا بأنها ضبابة و هتعدى .. أقصي ما في الأمر إنها هتأجله شوية ... فاكر إن الأيام في اللحظات ديه كانت كلها شبه بعض، بالذات لشوية شباب "متدلع" بينتمي لأقلية مستمتعة بإمتيازات العيشة في بلد زي مصر... كل حد فينا كان بيهرب بالطريقة اللي شافها مناسبة. حسيت إن كل واحد كان بيشوف آخره فين و كان بيجيبه ... اللي ماكانش بيشرب، بدأ يشرب .. واللي كان بيشرب، بدأ يسموك ... اللي كان بيسموك، بدأ يضرب .. مافتكرش ناس كتير بدأت تصلي ساعتها ... أو يمكن كان فيه و ماقالوش ... ما عرفش ليه؟ يمكن علشان ساعتها كنا فاكرين إن الصلاة ليهم و الشرب لينا .. يمكن جماليات الهوية؟ أو يمكن سجن الهوية و قبحها ..

محظوظين ان كان عندنا سكة للهروب .. و طرق الهروب بتتعدد كل ما الإمتيازات زادت ... لشوية مننا رفاهية السفر كانت منفذ للهروب .. و كونها إختيار مش نهائي و ممكن التراجع عنه، بيخليها تبان مجردة علي حقيقتها كرفاهية .. احنا ما سبناش البلد علشان كان لازم .. سبنا البلد علشان نقدر ... و السفر كان أجازة صغيرة نفكر و نتعلم .. شوية و نرجع .. يمكن علشان كده النية في البداية كانت سنة. شد الرحال، اتعلم حاجه و بعدها عودٌ حميد...

السفر كان برضه وسيلة للهروب من واقع امتيازات مش عارفين نتصالح معاها، بس بنستفيد منها تحت أغلب الظروف ... هي جزء من تكويننا، عايزينها و مش عايزينها .. عايزين حلاوتها و مش عايزين وساختها .. زمان كنت هسميه عناء برجوازي بنبرة ساخرة .. النهاردة مش عارف هسميه إيه .. السخرية لسه موجودة، ما ماتتش، بس يمكن بقت أقل حدة ...

و لسبب ما كان فيه دايماً ارتباط بمصر .. بسأل نفسي كتير يعني إيه مصر أساساً؟ أصل بيقولوا إن الدول كيان وهمي ... اتسمي قبل ما يكون، فأصبح ... بيقولوا إن مصر، أم علم أحمر في أبيض في أسود ديه، حد زمان حطها في صندوق واحد، و شد كام خط عالخريطة و قرر ان كل اللي جوًا الصندوق شبه بعض. سمر و لونهم قمحي، بيتكلموا عربي، متدينين، غيريين، مسلمين و مسيحيين ... شوية حاجات كده سهلة و مريحة بتخلي الصندوق سهل الفهم و واضح المضمون.

.. بس بغض النظر عن كون الصندوق وهمي أو لأ، و بالرغم من إني حسيت لفترة طويلة إني مش راكب جوا الصندوق ده، إلا أن ارتباطي الشخصي بيه حقيقي جداً ... حقيقة في لبها حنين لذكريات تكوينها معقد علشان اتبني علي خليط من الجمال و السموم اللي احتكيت بيها في كل ركن، في الرايحة و الجاية .. حنين لذكريات نتجت عن إمتيازات حقيقية. ذكريات الكوربة و نادي هليوبوليس و المدرسة الألمانية ... و نتجت برضه عن إستحالة الهروب من واقع العيشة في مصر. واقع إن كلنا بنشم نفس الهوا الوسخ ... و إن كلنا مش لاقيين حتة جنينة خضرة نتمشى فيها ببلاش. و لو لقينا، مافيش مهرب من كلمة جارحة، أو بصة غرقانة في عمي الأحكام ...

مشكلة النوع ده من الحنين إنه مركب ... زي حنيني لإزازة البست المليانه ميَّا و مشبره من كلور الحنفية في تلاجة جدتي. بالمناسبة، بيقولوا إن مية الحنفية هي فخر مدينة نيويورك ... أنضف مية حنفية في أمريكا أصلها ... أما في مصر، فدلقوتي ما بقيناش نشرب غير الميَّا المعدنية، و لو قلتلي أشرب من الحنفية هرد بلأ - بس الحنين موجود.

زي حنيني لقعدات الصحاب، قعدات حبايب كلها ألفة و ضحك .. وحشني الضحك من القلب ... بس للأسف مليان عنصرية، و ذكورية و أطران شربناها و احنا بنكبر ... مكسوف من نفسي علشان لسه بضحك ساعات علي نفس الحاجات ... و ساعات تانية بتقرف ... شيزوفرينيا؟ يمكن ...

عندي حنين لريحة الأسفلت السخن ... و حنين لألفة القاهرة بالليل و أنا سايق فيها لوحدي .. و أكون كداب لو قلت إني ما وحشنيش الدلع، دلع الأهل و طبيخ ماما و غسيل الهدوم في ثانية ... و هو نفس ذات الدلع اللي بعد شوية بكون ناقم عليه، علشان بسببه المساحة بين الشخصي و العام بتتلغوش ... اللي بتدي قرايبنا الحق انهم يسألوا "هنفرح بيكي امتي؟" أو يعلقوا بكل ثقة انك "يا دوبك تخلف علشان مراتك كبرت" ... إزاي توحشني نفس الحاجات اللي خلتني عايز أمشي في الأصل؟

مرة قريت مقال كان بيتكلم عن صلاح چاهين و إزاي كان رسام للسلطة في آخر حياته ... قد إيه زعلت .. الرباعيات شكلت وجداني في مراحل النضج لدرجة إني لو عمري فكرت أوشم حاجه علي جسمي هتكون عبارة "خايف لكن خوفي مني أنا" - بس مش عارف لو هقدر .. ما الأسئلة أكتر من الإجابات ... هل تواطؤ چاهين مع السلطة كافي لمسح تأثير شعره في وجداني؟ و التأثير في حنيني لكل حاجة كلماته بتمثلهالي؟ طب هل ممكن فعلاً "فصل العبارة عن قائلها"؟ هل ممكن أكون ممتن لچاهين في لحظات الوحي و ناقد ليه في لحظات التواطؤ؟ هل فيه مساحة للتصالح بين الاتنين؟ مش يمكن خوف چاهين من نفسه كان في محله؟ أنه ما نطش لاستنتاجات نهائية و ساب لنفسه براح أنه يكون الاتنين في نفس الحين ... ولا يا تري ديه رومانسية المحب و جبنه من مواجهة نفسه بأخطاء حبيبه؟ بآدميته ...

طب و نعمل إيه في حتمية إن كلنا هنتغير بطرق مختلفة؟ طب و لو إللي وجداننا مرتبط بيهم اتغيروا بشكل درامي عننا ... نعمل إيه؟ البعد عدسة بتكبر التغيير .. بتخليه ملحوظ .. آخر مرة اتكلمنا كانت في شهر أغسطس ، و تاني مرة كانت في يناير ... أكيد في الحالة ديه هناخد بالنا لو اتغيرنا .. لو تخننا أو اصلعينا أو عجزنا ... لو ما بقيناش بنضحك علي نفس النكت ... يمكن علشان كده القرب فيه شيء من السهولة و الراحة ... شيء من الإمتياز .. القرب بيخلي التغيير تدريجي و غير ملحوظ .. زي ما مصر الجديدة ما بقتش موجودة ... أكيد اللي ساكنين فيها واخدين بالهم، بس مفرمة القاهرة و الحياة واخداهم .. من ناحية ما عندهمش وقت للحنين، و من ناحية تانية مش شايفين قد إيه هي ما بقتش .. علشان عايشين فيها و وشهم في وشها طول الوقت. فمافيش ثنائية "قبل" و "بعد" .. فيه بس أثناء ... و "أثناء" ساعات بتخلي تقبل حقيقة التغيير أسهل ... و التأقلم معاها أريح.

ساعات بتساءل لو هي ديه الإجابة ... متواجدة في خبايا اللحظة و نشوة الحاضر ... بعيد عن ثنائية الماضي و المستقبل ... عن ثنائية التدين و الكفر ... و النقاء و الوساخة، أو الخير و الشر ... بس إزاي نتعلم عن الخير لو ما نعرفش يعني إيه شر ؟ ماحنا ماشفناهوش ... هل أصلاً ممكن نتعلم أي حاجة في غياب المضادات؟ بدون الحاجة و عكسها؟ في غياب الديالكتيك؟

مكالمتي الأسبوعية مع صديقي في البلاد دايما بتخلص بنفس الشكل .. لازم يفكرني إن بقالي تلات سنين بديله "بق" كلها سنتين و أرجع ... يمكن علشان أنا فعلاً نفسي أرجع -

و يمكن علشان أنا فعلاً فعلاً عايز أفضل ...

هو ليه الإنجليزي بقي مؤشر "للنضافة" في مصر؟ - عن دور الدولة في ترسيخ السلطة الرمزية للغة الثانية

تخيلوا معي الموقف التالي: سيدتان غير معلومتي الهوية، تدخلان على رجل سلطة، تصادف وجوده في مكان عام.. تزاحم كل منهما للوصول إليه، كي تشكو إليه مشكلةً ما. وبطبيعة الحال في بلادنا، يتأفف المسؤول مبديًا استياءه من الوضع، إلا أنه سرعان ما يخطر بباله هاجس أن تكون إحداهما "واصلة"؛ فتسبب له مشكلة إن هو تجاهلها. في البداية سيحاول الرجل تقييم كلتا السيدتين بناء على ملبسها، ليحدد كَمّ الاهتمام الذي تستحقه. لكن، على سبيل المصادفة البحتة، كان ملبسهما متشابها إلى درجة كبيرة، فصار عليه -والحال هكذا- أن يلجأ إلى مؤشرات أخرى؛ لمعرفة موقع كل منهما على السلم الاجتماعي، وأهم هذه المؤشرات هو اللغة المستخدمة.. ما الكلمات التي تستخدمها كل منهما لمخاطبته؟ هل تقول "حضرتك"، أم "أنت"، أم "يا بيه"؟ فكل كلمة من هذه تعكس كيف ترى كل واحدة منهما علاقتها بالمسؤول! هل تتخلل عباراتها عند طرح المشكلة كلمات أكاديمية الطابع، تعكس تعليمًا جامعيًّا مثلاً؟ وهل تحتوي تلك العبارات على كلمات إنجليزية؟ وإن كانت إنجليزية، فهل هي ركيكة أم جيدة؟ كل هذه العوامل ستساعد الرجل على "تعليب" محدِّثته، وفي الغالب سوف يعطي مساحة أكبر للسيدة التي تتحدث الإنجليزية بطلاقة.. فهي قد تكون خريجة AUC، ما يشير إلى حدٍّ أدنى مرتفع من مستوى العلاقات والمستوى المادي، وهو ما قد يكون مصدرًا لوجع الدماغ إن قرر أن يتجاهلها.

في هذا الموقف، تحولت اللغة إلى أداة لفرض القوة، كـ"كرباج" خفيّ. هذا ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930 – 2002) بـ"العنف الرمزي"، فاللغة -في رأيه- أحد العناصر الرئيسة في عملية إعادة إنتاج العلاقات الطبقية في المجتمع، لأن الكلمات واللهجات تعطي سلطة رمزية لها تأثير، يكون -في كثير من الأحيان- أقوى من تأثير سلطة رأس المال، والسر في كونها غير مرئية. فالسلطة الرمزية تتسلل من خلال ممارساتنا اليومية، ولغتنا وعاداتنا، لتحمل معاني قوية يترجمها الآخرون لاشعوريًّا.

من الهامّ هنا، أن نذكر أن تأثير اللغة الثانية كأداة للسلطة الرمزية، ليس بالأمر المستجد. ففي أوروبا كان التمكن من لغة ثانية، دومًا، رمزًا للانتماء إلى نخبة ما، ثقافية كانت أو طبقية. في إنجلترا مثلاً، تعود أولى الأدلة التاريخية على تعلم لغة ثانية، إلى أوائل القرن العاشر الميلادي، إذ ظهرت في شكل حوارات مسجلة بين الرهبان، باللاتينية والإنجليزية. بعدها بقرون تحولت الفرنسية إلى لغة الطبقة الحاكمة البريطانية، لتعكس امتيازات طبقية وهيمنة فرنسية في الآن نفسه. والكلام نفسه ينطبق على رجال الدين وعلماء المسلمين، الذين تعلموا اليونانية القديمة؛ للبناء على علوم الحضارة، من فلسفة وفلك وحساب وغيرها.

إذن الهدف من هذا المقال، ليس التحقيق في سلطة اللغة الثانية الرمزية من الأساس (فهي فرضية مفروغ من صحتها في رأيي الشخصي) وإنما البحث عن إجابة للسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ويدور حول سياسة الدولة التعليمية في مصر منذ أن بدأت "نهضتها الحديثة": هل ساهمت هذه السياسة في ترسيخ قوة اللغة الثانية، كواحدة من أدوات السلطة الرمزية في بلادنا؟ المقال هو محاولة لفهم الدوافع التاريخية، وراء إدماجها أو تجاهلها في نظامنا التعليمي.


بداية تعرضنا –كشعب- للغات الأوروبية، بطريقة مؤسسية ممنهجة ومدفوعة بإرادة سياسية واضحة، كانت في أثناء حكم محمد علي، فهو من أعطى تحديث الجيش المصري أولوية قصوى، نظرًا إلى طموحاته التوسعية في المنطقة. طبعًا، واجه والي مصر حينها، حقيقة أن كل العلم المقرون بأساليب الحرب الحديثة، مكتوب بلغات أوروبية، وهو ما صار بديهيًّا منذ أن طرقت الحملة الفرنسية أبواب المحروسة، إذ تعرضنا على نحو مباشر، لحجم التطور الذي وصلت إليه دول "الغرب" آنذاك. ونتيجة لذلك، قرر محمد علي، بناء أول مدرسة للهندسة عام ١٨١٦، التي اقتصر التدريس الأساسي فيها على اللغتين الإيطالية والفرنسية. ثم سرعان ما لحقتها مدرسة الطب (أو كلية عين شمس) التي أسسها كلوت بك سنة ١٨٢٧، والتي قوبلت فكرة التدريس فيها بلغة أجنبية بمعارضة شديدة؛ نظرًا إلى حداثة مجال الطب، الذي كان لا يزال يكافح ليتحدى أعرافًا وصمته بالحرمانية؛ لتعامُلِه مع أجساد الموتى والنساء، فكان لا بد من التدريس بلغة تتيح للأزهر التفاعل والسيطرة على مجريات الأمور. حينها ظهرت حاجة ملحة إلى ترجمة العلوم، من اللغات الأوروبية إلى العربية، لتعليم الطلبة المصريين، وتمكين الأزهريين من فهم المحتوى. هنا استفاد النظام القائم من خريجي البعثات المصرية إلى فرنسا، وأُنشِئت على أثر تلك الحاجة أيضًا مدرسة الألسن، التي اقترنت لاحقًا باسم رفاعة الطهطاوي.

على كل حال، وعلى الرغم من أن "العِلم الغربي" قوبل -في تلك الفترة- بخليط من اللفظ والترحيب، من الممكن الجزم بأن الربط بين التقدم العلمي والحضارة الغربية بلغاتها، بدأ يتشكل في وعينا الجمعي في ذلك الوقت. وفي غالب الظن، صاحب اختلال موازين القوى الحضاري ذلك، اختلالٌ في موازين القوى اللغوية. فحضارة الغرب -مثلاً- عكفت على إضافة الكلمات الجديدة، واحدة تلو الأخرى، إلى الموسوعة البشرية. فكلمات مثل "كهرباء" و"مؤسسة" لم يكن لها معنى في العربية، لأننا -بكل بساطة- لم نكن نعرف ماهية كلمات، كانت وليدة اختراعات وأفكار جديدة ومختلفة. وفي الوقت نفسه، كانت حضارتنا تصارع لإيجاد مكان لهويتها، ولتلك الكلمات الجديدة، في قواميس عالَم جديد لم تلحق بركبه. حينها، حمل أمثال رفاعة الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، مهمة شائكة وغاية في الصعوبة على عاتقهم.. كان شغلهم الشاغل هو إدماج تلك الكلمات الدخيلة في معجمنا، دون الإخلال بهوية اللغة العربية. فيُحكى مثلاً أن الطهطاوي استفاض في كتابته، لدرجة جعلته يكتب أحيانا صفحات كاملة لشرح كلمة واحدة. استفاضة تبدو منطقية، إذا تخيلنا صعوبة شرح مفهوم مثل "الكهرباء"، لأناس لم يروها من قبل.

تمر الأيام، ويفشل مشروع محمد علي، ويتراجع معه الاهتمام بقضية التعليم عامة. فبخلاف بعض المبادرات في عهد الخديوي إسماعيل، بقي تعليم اللغات محصورًا بداخل مؤسسات بعينها، لم يستطع الوصول إليها سوى شريحة محدودة من المصريين، بما أن نسبة الأمية تجاوزت ٩٥% منهم في تلك الفترة. وبناء عليه، كانت الطريقة الوحيدة لتعلم لغة ثانية هي الالتحاق بإحدى مدارس المبشِّرين الخاصة (مثل الفرنسيسكان والجزويت) التي كانت تقبل المسلمين والمسيحيين على السواء. إلا أنها كانت تتطلب مصروفات رغم أنها ليست بالباهظة كانت -بلا شك- تمثل عائقًا أمام السواد الأعظم من المصريين، الذي ألحق أبناءه بالكتاتيب، ولم ير جدوى لتعليم بناته أساسًا.

التغيّر الكبير جاء لاحقًا، مع قدوم الاستعمار الإنجليزي، وتكوُّن الحركة القومية المصرية، وهما أشد ما أثَّرا جِذريًّا، في تطور مجريات تعليم اللغات في مصر. فبالنسبة إلى الاستعمار البريطاني، كانت فلسفة الحكم تتلخص في عبارة: "خليك على وضعك". و"الوضع" في هذه الحالة، يتمحور حول إنتاج أكبر كمية ممكنة من القطن وتعظيمها، لتصديرها إلى مصانع إنجلترا. ومن أجل حماية الوضع القائم، كانت هناك حاجة ماسة إلى الحفاظ على الفلاح وعلاقته بالأرض؛ فمن دون الفلاح يغيب القطن. لذلك أصر الإنجليز على خلق نظام تعليمي، يصعّب من سبل الترقي الاجتماعي. هنا كان الترقي الاجتماعي مربوطًا ربطًا وثيقًا، بإتقان الإنجليزية أو الفرنسية. فالالتحاق أصلاً بأي من المدارس الثانوية، كان يتطلب معرفة إحدى اللغتين أو كلتيهما، لأن غالب المواد كان يُدرَّس بهما. وتلك المدارس كانت تؤهل مرتاديها للانضمام إلى البيرقراطية الحكومية، أو العمل في السلك القضائي، أو غير ذلك (فاللغة الرسمية للمحاكم المختلطة في مصر –مثلاً- كانت الفرنسية). ولذلك أصر اللورد كرومر، المندوب السامي للاحتلال الإنجليزي، على وضع شرط أن تكون العربية هي لغة التدريس الوحيدة، عند إقرار ضم الكتاتيب في مصر إلى وزارة المعارف، وتحويلها إلى مدارس أولية (أو ابتدائية) عام ١٨٩٨، فإن خولِف الشرط؛ لم تحصل المدرسة على الدعم المالي الحيوي كي تستمر. بناء عليه، صار مستحيلاً على الفلاح أن يترقى اجتماعيًّا، ما لم تتوافر الموارد المادية التي تسمح له بأخذ دروس خصوصية في اللغات، أو الالتحاق بإحدى المدارس التبشيرية الخاصة، وهو بالطبع ما لم تمانعه طبقة ملاك الأراضي، لِما تضمّنه هذا النظام من استمرارية لمصالحها القائمة مع المستعمر. وقد انعكس هذا على عدد المدارس الثانوية في مصر كلها، الذي لم يتجاوز أربع مدارس فقط، في بر المحروسة بالكامل. وهنا يتضح التحول التدريجي للغة، من أداة لإظهار السلطة العلمية، وشرعنة الدمج الثقافي (حاملة بين طياتها -بلا شك- أبعادًا طبقية) إلى أداة صريحة لترسيخ التفاوت الطبقي. فتسليع مهارة تعلم اللغة الثانية في مصر، حوَّلها إلى حائط لا يتجاوزه سوى القادر، لتصير ضمانةً تحفظ الاستقرار السياسي في تلك الفترة.

ولأن المواقف التاريخية عادة ما تكون مركبة، يجب الإشارة إلى أن الحركة القومية المصرية، ساندت قرار فرض اللغة العربية، عند تعميمه سنة ١٩١٦، مع أخذنا في الاعتبار أن النواة المحركة للقوميين، كانت تنتمي إلى طبقة الأفندية الوسطى، التي تلقت تعليمًا يحتوي على اللغة الثانية، وكانت على دراية تامة بمزاياها.
في تلك المرحلة، كانت أولوية الحركة هي النهوض بالتعليم المصري، ما أثار نقاشًا هامًّا بشأن خصائص هوية المجتمع المصري، وكيفية تشكيلها.. هل تكون اللغة العربية هي لغة التعلم الوحيدة في المدارس؛ من أجل حماية الهوية من التغلغل الثقافي للمستعمر؟ أم هل تتاح لغات أخرى؛ للانفتاح على العالم بأفكاره المختلفة؟ ولأن غالب المصريين لم يكن يعرف القراءة والكتابة -حتى الذين أُلحِقوا بالكتاتيب منهم- فرض الواقع نفسه في النهاية. فالهدف الأساسي كان توحيد الهوية المصرية، وتمكين شرائح الشعب المختلفة من التواصل السهل بينها. شهدت تلك المرحلة سجالاً فكريًّا بين القوميين الإسلاميين، الذين رأوا في الحفاظ على عربية القرآن الفصحي، أداة للحفاظ على الهوية الإسلامية، وبين القوميين الليبراليين، الذين رأوا في التعمق في البلاغة "كلكعة ملهاش لازمة"، بل عائقًا أمام المشروع كله. ليتقرر بعد ذلك تبسيط اللغة العربية، واستحداث مادة خاصة لها، تتوحد تحت مظلتها كل علوم اللغة من نحو وبلاغة... إلخ. كانت الغاية الأساسية من تلك الخطوة، أن يفهم المواطن البسيط المنشورات التي يتلقاها من مناهضي سلطة الاستعمار، وليس بالضرورة أن يستطيع تفسير معاني القرآن الكريم، وهو ما تحقق في نهاية المطاف؛ بعد تولي سعد زغلول رئاسة وزارة المعارف، والضغط تدريجيًّا لزيادة عدد المدارس الثانوية والسعدية في مصر، والتركيز على تعميم العربية، وخلق طبقة عريضة متعلمة؛ عن طريق توفير التعليم العالي لقطاعات أكبر من الشعب. وهي المدارس التي تخرج فيها لاحقًا، الرئيسان جمال عبد الناصر، وأنور السادات.

إن رمزية اللغة الثانية، وارتباطها الطبقي، يتجلي عند التحقيق في علاقة الأرستقراطية المصرية باللغات الثانية، التي كانت مركّبة هي الأخرى. فالخديوي عباس مثلاً -وهو "الكريزة اللي على الكريمة"- لم تعبأ عائلته العَلَوية إطلاقًا بتعليمه العربية. فطبقا لمذكراته، كان الطفل عباس طلق الحديث بالتركية؛ بحكم أنها لغته الأم، والإنجليزية؛ بحكم أن مربيته كانت بريطانية الأصل. وفي المقابل ظلت عربيته ضعيفة حتى مماته. وبلا شك، أثر ذلك "التبرؤ" في تقييم هذه الطبقة لأهمية اللغة العربية، خاصة إذا كان حاكم البلاد، ورأس الأرستقراطية ونموذجها، لافظا لها من الأساس. علاقة الطبقة الأرستقراطية مع الإنجليز، عكست علاقة ثنائية، ومتضادة بالتوازي، مع لغة المستعمر هي الأخرى. فتفاعُل أبناء تلك الطبقة مع الاستعمار في الإطار التجاري، أعطى إيحاءً كاذبًا بالندية من ناحية (بمنطق "كلنا بتوع بيزنس وكده")، ومن ناحية أخرى قوبل ذلك التفاعل الإنساني، بملامح من الفوقية والتعالي من جانب المستعمر نحوهم، وهم مَن اعتُبِروا "كريمة الكريمة"، لأن الإنجليز كانوا يستحقرون المصريين، بصرف النظر عن انتمائهم الطبقي؛ فكانوا حريصين كل الحرص على عزل أنفسهم عنهم، لدرجة جعلتهم يبنون مدارس خاصة بهم؛ لا يُسمح لأبناء المصريين بدخولها. وحتى العمالة الإنجليزية الفقيرة كانت لها مدارسها الخاصة.

تلك اللامساواة ساهمت –غالبًا- في ترسيخ "عُقَد" الدونيّة، المتربطة باللغة والسلطة والوجاهة الاجتماعية. فتلك المدارس تحولت بعد ذلك، إلى مآل لأبناء الطبقات العليا، في أثناء الحقبة الناصرية، لتتحول المدارس التي كانت رمزًا مؤسسيًّا لاستبداد المستعمر، إلى رمز أقل حدة للاستبداد الطبقي.

وعلى الرغم من تتابع الأنظمة والأيديولوجيات، بين من صنف نفسه قوميًّا، ومن لبس رداء الانفتاح، استمر تبلور اللغة الثانية كسلطة رمزية، ومن ثم تحولت -مع التوسع في التعليم الخاص، وطوفان مدارس اللغات الهاجم من كل حدب وصوب- إلى علامة لـ"النضافة" و"الشياكة" و"الفلوس". وهنا يبقي السؤال قائمًا: كيف لنا أن نتغلب على المخزون الطبقي، الذي تحمله إجادة اللغات الثانية؟ وإذا كانت هيمنة أمريكا الثقافية واقعًا، وتأثرنا بالتاريخ حتميًّا، وارتباطنا بالدين طبيعيًّا، كيف لنا أن نحدد أطر التعامل مع اللغة الثانية في مدارسنا ومع أطفالنا؟ هذا -في صميمه- هو السؤال نفسه الذي انخرطنا فيه، منذ ما يزيد على المئة عام. فهل هناك ملامح محددة وواضحة للهوية المصرية التي ينبغي علينا إدراكها؟ أم أن هذه الهوية نسبية ترتبط فقط برؤيتنا الشخصية لها؟


المصادر

.alSamara, K. (2017). A new educational model and the crisis of modern terminologies: a view of Egypt in the nineteenth century. Paedagogica Historica, 53(1-2), 24-35.

BASHEER, M. (2002). Imperialism, Class and Power in pre-Republican Egypt.

Baraka, M. (1998). The Egyptian upper class between revolutions, 1919-1952 (No. 30). ISBS.

De Bellaigue, C. (2017). The Islamic Enlightenment: The Struggle Between Faith and Reason, 1798 to Modern Times. Liveright Publishing.

Haeri, N. (1997). The reproduction of symbolic capital: Language, state, and class in Egypt. Current anthropology, 38(5), 795-816.

Mak, L. (2012). The British in Egypt: Community, Crime and Crises 1882-1922 (Vol. 74). IB Tauris.

Mitchell, T. (1991). Colonising Egypt: With a new preface. Univ of California Press.

Yousef, H. A. (2016). Composing Egypt: Reading, Writing, and the Emergence of a Modern Nation, 1870-1930. Stanford University Press.

أوول انجلش … أوول ذا تايم - عن صراع الهوية في المدارس الدولية

لم تفاجئني نبرة الناظرة الغاضبة، بعدما باغتتنى أثناء تدريسي التاريخ لأحد فصول الثانوي ... فقد قبضت علي متلبسا و أنا أتحدث المصرية العامية في حصة، كان من المفترض أن تقتصر لغة التدريس فيها علي الإنجليزية ... صراحة، لا أتذكر تفاصيل الموقف، ولا موضوع الحصة .. كل ما أتذكره هو قراري يومها بإختيار الصمت، لأنني كنت في غني تام عن أي مشاكل مع رئيستي في وظيفة، لم يتعدي عمرها سوي أشهر قليلة ... خاصة و أن خبرتي في مجال التعليم كانت محدودة حينها، مما أجبرني علي تقبل قاعدة "All English, all the time" المعتادة بين المدارس الدولية في بلادنا، لكونها تضمن جزئيا تمكين الطلبة من اللغة الثانية التي يفترض إتقانها بحلول إنتهاء رحلتهم الدراسية. و بالرغم من تجاوزي لتوبيخها يومها، إلا أنني تركت مقابتلنا و أنا علي يقين تام بأن إيصالي للمعلومة كانت ستقل فاعليته بالإنجليزية، نظرا لقدرتي علي نقل المحتوي بإحساس أعمق بالعامية.

تذكرت تلك اللقطة مؤخرا ... و تذكرت معها مدي تعقيد علاقتي مع اللغة الإنجليزية. فلسبب ما، لم تداعب الإنجليزية أبدا لساني بتلقائية، فوجد دوما حاجزا بيني و بين إستخدامي لها في محادثاتي مع أقران، كانوا يرطنونها بطلاقة. هذا بالرغم من التحاقي بمدارس دولية و لغات منذ الصغر .... قد تعود عدم أريحيتي تلك، لكون العامية لغة التحدث الأساسية في منزلي و مع أصدقائي .. و قد تعود إلي عدم ثقة في لهجة تبيح بأن الإنجليزية ليست لغتي الأم .. لكنني بالطبع لم أكن الوحيد الذي واجه تلك المشكلة ... بل و في الأغلب، الكثير من طلبتي يواجهون نفس العوائق مع الإنجليزية أثناء تدريسي لهم يوميا ... و هنا تجتاح عقلي العديد من الأسئلة .. فهل مثل فرض الإنجليزية في تلك الحالة عائقا بين الطلبة و بين فهمهم المحتوي (التاريخ في تلك الحالة)؟ أليست اللغة في نهاية المطاف أداة لتحقيق غرض التواصل و الفهم؟ و في جميع الحالات هل يؤثر خلط اللغات علي إتقان لغة بعينها؟ و إن تقبلنا أن اللغة ليست مجرد أداة، بل بوابة للانفتاح علي عالم آخر من القيم و الثقافة و الرأي، فهل لهذا الخلط تبعات علي هويات الطلبة؟

لسبب ما يري الكثيرون منا تعارضا عميقا و طبيعيا بين الهويات "الغربية" و الهويات "الشرقية" .. و هو إيمان نابع في الواقع من فكرة أن القيم "الأوروبية" لا تتسق في مجملها مع قيمنا "الشرقية". و بغض النظر عن صحة تلك الرؤية من عدمها، فقد نقل ذلك التناحر بشكل غير إرادي في بدايات القرن الماضي إلي مجال إكتساب اللغات الثانية ... فراجت صورة مغلوطة عند غالبيتنا العظمي ... صورة تتلخص في نظرية تسمي بال “balance theory”، تؤمن بوجود "خناقة" أزلية داخل المخ بين اللغات، و كأن المخ كوب فارغ و محدود، له حد أقصي من اللغات التي من الممكن ملئه بها. فإن تعلمنا الإنجليزية، ستفرض نفسها لتطغي علي مساحة العربية في المخ أو العكس.

إلا إن الواقع يناقض ذلك التخيل تماما، و هو ما دحضته لاحقا نظرية كمنز (common underlying proficiency) ... كمنز توصل إلي أن عقولنا تستخدم موسوعتها اللغوية كلها بانسيابية بين اللغات أثناء التفكير ... و السبب بكل بساطة هو أن أنماط التفكير بداخل عقولنا واحدة، لا تتغير مع تغير اللغة .. فنحن لا نملك صندوق يفتح خصيصا عند تحدث الإنجليزية و آخر نستخدمه للعربية .. فاللغة عند ثنائيي اللغة أشبه بالوعاء الكبير، الذي تخرج منه قمتي جبلين، واحد لكل لغة يتحدثها المرء .. ظاهريا قد تبدو كل لغة مختلفة عن نظيرتها، إلا أنهما في الواقع يتشاركا نفس أصول التعامل مع اللغة.. و الدليل هو ما أظهرته الأبحاث حول التأثير الإيجابي لكفاءة الأطفال في لغتهم الأم، علي قوة إتقانهم للغتهم الثانية. فالقدرة علي إستيعاب المفاهيم و التعبير عنها باللغة الأم، تساعد علي نقلها بسهولة للغة الثانية. و انسيابية إدراكنا اللغوي هذا، من الممكن ملاحظته أيضا، عند محاولتنا لتذكر كلمات عربية في بعض الأحيان عن طريق معرفتنا بمعانيها في الإنجليزية، و ذلك لتوصيل فكرة باللغة العربية في الأصل!

حتي الأطفال، فلديهم القدرة علي تعلم أكثر من لغة منذ لحظة ولادتهم. فالرضيع مثلا، يستطيع التفريق بين صوت أمه و أي صوت آخر، و بحلول عيد ميلاده الأول ينجح في النطق باللغتين .. و قد يتباين بالطبع التمكن اللغوي بين كل لغة و الأخري، و هو ما يرتبط بعوامل داخلية لها علاقة بشخصية الطفل و قدراته (خجول أم إجتماعي )، و أخري خارجية مرتبطة بالأهل و البيئة من حوله ... و ما زال النقاش دائرا حول السن الأنسب لاكتساب أي لغة ثانية، فالكثير من الأبحاث تدعي أنه يقع بين أربع و ثمان سنوات. إلا أن المؤكد هو انحصار فترة إكتساب اللغة الثانية بطلاقة بين لحظة الولادة و سن البلوغ ... و بغض النظر عن الرقم، فالتوافق العام يزعم أن تعلم أكثر من لغة، ينمي أنواع الذكاء المختلفة عند الطفل. و لا يهم إطلاقا إن حدث ذلك في المنزل إن تواجدت فيه لغتين، أو إن حدث ذلك في المدرسة حيث يتعلم الأطفال لغة مختلفة عن اللغة الموجودة في المنزل. في تلك الحالة إذن، يبدو أن قدرتنا علي تعلم أكثر من لغة فطرية، و أن إيجابياتها طاغية .. فما هي المخاطر التي قد تواجهنا عند تعريض طلبتنا و أطفالنا إلي لغة ثانية؟

في تقديري الشخصي، مصطلحا منقص (subtractive) و مضيف (additive)، يعكسا لب أي فلسفة تعليمية علي علاقة وثيقة باللغة... فالتعليم المنقص، هو التعليم الذي يهدف إلي الأخذ من اللغة الأولي، و إحلال لغة ثانية مكانها، و هو ما يحدث في الأساس بسبب الممارسات التعليمية في المدرسة و البيت، بالرغم من قدرة الطفل الفطرية علي استيعاب أكثر من لغة في نفس الآن. بينما التعليم المضيف يهدف إلي العكس بالضبط .. و اللغة هنا، لا تقتصر علي الكلمات و العبارات، بل تحمل معها بعد الثقافة التي تأتي مع تلك اللغة. فهل الهدف هو أن تمحي ثقافة و تحل أخري مكانها .. أم الهدف هو أن تتجانس الثقافتين معا بطريقة مكملة لبعضهم البعض ... يؤخذ من كل منهما ما يؤخذ بوعي تام، بغض النظر عن محتواه.

المشكلة الأساسية تكمن في أن أغلب المدارس الدولية في مصر، تعتمد برامج منقصة حتي و إن كان ظاهرها يهدف إلي إضافة اللغة الثانية إلي العربية. و أفضل نقطة بداية لفهم دوافع أولياء الأمور عند إلحاق أبنائهم بها، هي تشريح المدارس الدولية المختلفة. ما سيساعدنا علي تحليل السياسات المختلفة التي تتبعها إداراتها بخصوص اللغة الثانية. فتلك المدارس لا تتساوي إطلاقا من حيث القيمة الإجتماعية و قيمة مصاريفها السنوية، بالرغم من وضعها اعتباطا تحت تصنيف "دولية". بل و ترتبط قيمتها في أغلب الأحيان، بعلاقتها باللغة العربية، بكل ما تمثله و تحمله من معاني.

فأكثر تلك المدارس إنقاصا في فلسفتها التعليمية، هي أعلاها مكانة و قيمة .. و لذلك تعرف بأنها مدارس إنترناشونال "بجد" ... أول علامة علي أحقيتها بتلك المكانة، هو كون مصاريفها بالعملة الصعبة، و هو ما تفسره حقيقة أن أغلب مدرسيها يكونون من الأجانب ذوي البشرة البيضاء و العيون الزرقاء. أغلب موادها تدرس باللغة الثانية، بينما لا يعطي فيها أي إهتمام لتدريس اللغة العربية أو "مواد الحكومة" علي الإطلاق، و هو إتجاه معروف في تعليم اللغة بالأحادي (monolingual) ... في هذا الإتجاه، تطغي اللغة الثانية تماما علي اللغة الأم، و بالتالي يتخرج منها طلبة يتقنون الإنجليزية كتابة و لهجة، بينما يصعب علي أغلبهم التعبير عن أنفسهم بالعربية، خاصة إن لم يعيرها الأهل إهتماما مباشرا لتقويتها. إنعدام الكفاءة اللغوية هذا يصل أحيانا إلي لغتهم العامية، التي تتحول إلي عامية "مكسره" لا يستطيع الشتات الأعظم من المصريين فهمها. و هي نتيجة طبيعية، بعد محاصرة الطالب بلغة و ثقافة، تختلف تماما عن ثقافة المجتمع الغالبة. و طبعا، لا تساعد فقاعات الانعزال في كومباوندات التجمع و سته أكتوبر علي خلق أي تفاعل حقيقي مع الحياة الطبيعية في الشارع، فينتهي به الحال، في صراع هوية داخلي، لأن كل علمه و قدواته من المدرسين لا يشبهونه، لا شكلا و لا موضوعا ... بل و ينظر إليهم كرموز للتحضر و التقدم، بكل ما يملكون من قيم و آراء و تاريخ. فيكبر ليتعلم أن الاستعمار ساهم في تحضرنا، و أن اللغة الثانية هي أحد علامات هذا التحضر. و لعل ذلك يبرر الرمزية الطبقية التي تصاحب الإلتحاق بتلك المدارس ... فهي ترتبط بالقدرة المادية من ناحية، و برمزية فوقية ينظر فيها إلي العامة ككيان مختلف، بكل ما يمثلونه من لغة و قيم و عادات من الناحية الاخري . ثم تتحول تلك الرمزية إلي مادة للتفاخر بين الأهل و الأبناء سواء، مما يشجع المدارس علي الاستمرار في تبنيها للبرامج المنقصة لغويا .

و بما أن قانون العرض و الطلب يتحكم في منظومة التعليم الخاص المصرية، فالنموذج الآخر من المدارس الدولية هو الأعم ... و يقل عادة تقييم المجتمع لهذا النموذج من المدارس، كلما زاد معدل المصريين العاملين بها، فتصبح أقل "نضافة" من غيرها. و طبعا، تساهم زيادة نسبة المدرسين المصريين في تقليل مصاريفها، بما أنهم يقبضون بالجنيه بدلا من الدولار ..

هنا تدرس اللغة العربية و الدراسات الإجتماعية و الدين، إلي جانب اللغة الثانية... و بناء عليه قد تبدو تلك المدارس لغير المدقق و كأنها تعمل علي إضافة اللغتين و الحفاظ علي جوانب مهمة من الهوية ... إلا أن الشيطان يكمن في التفاصيل، لأن إختلال موازين القوي بين اللغتين يتضح في جوانب التعامل فيها ... بداية تحصل المواد التي تدرس باللغة الثانية علي أغلب وقت الدراسة … و تغلب عليها قاعدة “All English , all the time” مما يحد من تشجيع الطلبة علي الفهم و تعلم اللغة، لتساهم في خلق مفهوما مغلوطا ... فالطالب الذي يتكلم الإنجليزية بطلاقة له اليد العليا في تلك البيئة، لأنه يملك المهارات و بالتالي المساحة للتعبير عن نفسه .. أما من يواجهون صعوبات، فيتكون حاجزا بينهم و بين اللغة. فمن ناحية، لا تخلق علاقة طبيعية معها، فيها مساحة لتقبل الأخطاء، لتنعدم الثقة و يتجنب معها الطلبة التفاعل مع اللغة من الأساس .. بالرغم من أن الطلبة سينجحون في توصيل تلك الفكرة، إن سمح لهم المزج بين اللغتين ... فتصبح المدرسة أداة تعيد إفراز بيئة شبيهة بتلك الحاضرة في المجتمع الخارجي، لتضع الطالب غير القادر عن التعبير باللغة الثانية في مرتبة أقل عن أقرانه، بدلا من تحديها و تغييرها.

يسيطر أيضا علي تلك المدارس تسلسل هرمي غير معلن، ينظر فيه إلي مدرسي العربي و الدين من قبل الطلبة و المدرسين سواء، علي أنهم أدني مستوي من غيرهم، و هو ما تعكسه مرتباتهم الأقل قيمة من نظرائهم المصريين من متحدثي الإنجليزية مثلا. هذا التسلسل لا يقف هنا، فالمدرسون المصريون يقعون جميعا تحت المدرسين الأجانب أصحاب جوازات السفر الأوروبية و الأمريكية، بغض النظر عن قدراتهم اللغوية. فهؤلاء يقبضون بالدولار و لهم دوما معاملة خاصة، بالرغم من أن أغلبهم فعليا يتحدث لغة واحدة، و مؤهلاتهم الدراسية تكون أحيانا ضعيفة، لدرجة أن بعضهم يحمل شهادة الثانوية فقط في جعبته ... هذا طبعا بجانب حقيقة أن محتوي المواد الأجنبي أجمل بصريا، و أكثر مرحا، و به أنشطة مختلفة تحفز التفكير بالمقارنة بنظيره المصري. فما هي الرسالة التي تصل لطلبة بالفطنة الكافية لإستنباط الحقائق من حولهم؟ فأي لغة و ثقافة لها اليد العليا في تلك المعادلة؟ ... ما هي القيم و الأفكار التي ستترتب علي إختلال موازين القوي ذلك في المدرسة؟ .. أي انحياز سيضمن للطالب الترقي و المال و "البرستيج"؟

حل تلك المعضلة، يتلزم إدراك واعي بكل جوانب العملية التعليمية منذ لحظة دخول الطلبة المدرسة حتي خروجهم منها، لكي تخلق علاقة متوازنة و مضيفة بين اللغتين. و تندرج تحت مظلة تلك الفلسفة العديد من البرامج ثنائية اللغة (bilingual) . سأتكلم هنا عن تقديري الشخصي لأفضلها و هي المدارس مزدوجة اللغة، التي يقسم فيها الوقت للتحدث بين اللغة الأم واللغة الثانية. قد تقسم بناء علي المواد (حساب بالإنجليزي و تاريخ بالعربي)، أو الأيام (الأحد بالإنجليزية و الخميس بالعربية)، أو المواضيع (تاريخ الثورة الفرنسية بالفرنسية، و ثورة ١٩١٩ بالعربية) ... و تحدده سياسة المدرسة طبقا لتقديراتها. في تلك المدارس تكون أغلبية المدرسين من أبناء جنس الطلبة ممن يجيدون اللغتين، إلا مدرسي مادة اللغة الثانية. طبعا، يتم هنا التنازل عن إعطاء الطلبة القدرة علي الرطن باللهجة "الأمريكاني"، في مقابل أن تكون نماذج المدرسين للطلبة شبيهة بهم و هي نظرية تسمي بالملائمة الثقافية (cultural relevance) ... الفكرة هنا هي أن تفاعل الطالبات مع ميس كورتني الكندية، التي شجعها أهلها علي الإنضمام لفريق رقص المدرسة في سن الرابعة عشر، و كانت علي علاقة كاملة مع حبيبها منذ أن كانت في السابعة عشر من العمر بعلم والديها سيكون أصعب كثيرا عليهم من التفاعل مع ميس فريدة، التي اضطرت للتعامل مع التحرش في شوارع القاهرة منذ أن بلغت سن الرابعة عشر، و مضت حياتها تناور واقع حياة تفرض فيه قيود مضنية عليها كسيدة. فمن منهن سيكون لها تأثير أعمق علي تشكيل شخصياتهن و مساعدتهم ليكن سيدات أقوياء مستقلات مدركات لطبيعة مجتمعهن و كيفية التعامل معه بذكاء؟ و بالطبع وجود ميس كورتني مهم، لأنه يساهم في "تفتيح الدماغ" و الانفتاح علي ثقافة الغير ... و لكن كم كورتني تتواجد في مبني المدرسة؟ و هل تعامل بنفس المعايير كزملائها المصريين؟

قرار إستخدام اللغة في تلك المدارس يقابل بتمعن شديد هو الآخر ... فبالرغم من وجود أوقات مخصصة للتحدث بلغة ما، إلا أنها ليست قاعدة جامدة. فقدرة المدرسين علي التحدث باللغتين تتيح لهم مزجهما عند الحاجة، لتوصيل المعني و لتوسيع القدرة اللغوية، و هي ممارسة مسماه بال "trans-languaging" بكل بساطة، رؤية الطالب لكلمتي "إستغلال" و "exploitation" علي السبورة، يساعده علي ربط المعنيين ببعضهما البعض، مستغلا قدرة عقله علي التنقل بين لغة و أخري، لاستيعاب المفاهيم بسرعة ... و عمق معادلة القوة بين اللغتين يصل في بعض المدارس إلي كتابة اللافتات المنتشرة في الأنحاء باللغتين، حتي لا يشعر الطلبة بسيطرة لغة علي الأخري .. و هكذا لا تتصارع الهويتان بل يوضعا في توافق و ندية .. لا توجد فيه واحدة أفضل، بل يصبح الإختيار مسألة شخصية في النهاية تتعلق بإنحيازات الطلبة و أولياء أمورهم الشخصية. دور المدرسة يتمحور في تلك المعادلة حول إتاحة اللغة الأم و اللغة الثانية كأدوات للتعرف علي كل جوانب الهوية التي تمثلها تلك اللغة .. و من ثم إتاحة القدرة علي تقييمها .. بأدبها، و فنها و مسلسلاتها .. بنظرياتها و قيمها و تقاليدها ...

عندما يتعلق الأمر بهوية المرء، لا توجد إجابة واحدة شافية .. لأن كل منا له تعريفه الخاص لكلمة مصري/ة، و بناء عليه نأخذ القرارات التي تناسبنا بخصوص تعليم أطفالنا أو تدريس طلبتنا اللغة الثانية. فشئنا أم أبينا، لا يمكن إنكار أن جزء أساسي من إهتمامنا باللغة الثانية، و الإنجليزية بالأخص، هو إتاحتها لبحر مهول من الفرص. فالإنجليزية هي اللغة الرسمية للتواصل مع بلاد العالم ... فبدونها يصعب مثلا السفر مع "الشغل" للخارج، أو مقابلة الوفد الأجنبي الزائر ... و بدون ذلك الاحتكاك يصبح مستحيلا الحصول علي ترقية، في شركة تتمحور أغلب علاقاتها في المناصب العليا علي التواصل مع الشركة الأم في الخارج .. أو حتي القدرة علي الاضطلاع علي آخر المستجدات في أي مجال، طب كان أو أدب .. إلا أن ميلنا لمزج الإنجليزية بدرجات متفاوتة في كلامنا اليومي ظاهرة تعكس أبعادا طبقية و ثقافية لا حصر لها .. فطوفان الأمهات التي تسمي الحذاء "شووز" بدلا من "جزمة" يتزايد يوما بعد الآخر. و كلمات مثل "أورريدي" (already) و "أبسولوتلي" (absolutely) أصبحت علي شفي الإنضمام للمعجم الوسيط. هناك أيضا قطاع مننا يحتوي كلامهم الدارج علي نسبة كبيرة من الإنجليزية .. لذلك يجب علينا في جميع الأحوال إدراك الإطار التربوي المؤثر علي تفاعلاتنا اللغوية اليومية، لتصبح تبعات إختياراتنا المتعلقة بكلامنا و قراءاتنا و مسلسلاتنا واضحة .. فسواء كان إختيارك أن تطلب من إبنتك أن تلبس "الشوز" أو "الجزمة" أو "الحذاء" ... أو إستخدام جميع الترجمات بالتبادل .. فهو في نهاية المطاف قرار شخصي و نسبي - يحتمل الصواب و يحتمل الخطأ ...

و لكنه بكل تأكيد أيضا قرارا فاعلا و منحازا!

المصادر

Apple, M. W. (2004). Ideology and curriculum. Routledge.

Au, W. (Ed.). (2009). Rethinking multicultural education: Teaching for racial and cultural justice. Rethinking Schools.

Baker, C. (2011). Foundations of bilingual education and bilingualism (Vol. 79). Multilingual matters.

Bartlett, L., & García, O. (2011). Additive schooling in subtractive times: Bilingual education and Dominican immigrant youth in the Heights. Vanderbilt University Press.

De Jong, E. J. (2011). Foundations for multilingualism in education: From principles to practice. Caslon Pub..