حين قرأته للمرة الأولي، بدي كتاب باولو فريري "بيداغوجيا المقهورين" (١٩٦٨) كالكتاب المقدس. جاذب في طرحه، ناقد في تحليله، وثوري في طموحه. بوصلة لكل من تراوده فكرة الاشتباك مع التعلم بشكل نقدي.
فكيف كان لي ألا أقع في غرامه؟
في عالم يتحكم فيه قهر المادة، أعطي فريري مآلا ثوريا لمهنة ارتبطت مؤخرا بالتهميش والتجاهل، معلنا أن دورنا الرئيسي كمدرسين هو المساهمة في تحرير هذا العالم من قهره. رأى فريري في رحلة التعلم طريق لتفنيد تلك الحقائق، ومواجهتها، بل وتغييرها. وبالرغم من أن ممارساته طبقت في ورش لمحو الأمية في البرازيل وتشيلي مع العمال والفلاحين، إلا أنها طورت لتشمل التعليم النظامي. فنظر للمدارس كمواقع مؤكدة لترسيخ القمع. أو مواقع ممكنة للتحرر.
أدوات فريري واضحة. نظرية للتعلم تتمركز حول المساواة بين سلطة القاهر والمقهور. بين المدرس والطلبة. أدرك أن التعليم الحديث جعل من المدرس أداة للقهر، ملخصا دوره في إخضاع الطلبة لفهم محدد للعالم. درجاته هي رصاصه، وسلاحه هو علم يحد من القدرة علي تخيل عالم مختلف .. عالم أفضل..
ولذلك يبدأ الإخلال بمعادلة القوة تلك بأشكلة واقع الطلبة المعاش. إلا أن مصدر تلك "الأشكلة" هو دوما الطالبات والطلبة، بتجاربهن وحياتهم. هن من يتولين مهمة التعبير عن المشاكل التي يوددن استكشافها. أما الميسرات فدورهن لا يتعدى مساعدة الطلبة على طرح الأسئلة، ومن ثم خلق حوار استكشافي في دوائر نقاش، يهدف إلى فهم جذور تلك المشاكل. ومن خلاله تنمي مهارات البحث وشغف التعلم.
لكن بالنسبة له لم يكن التنظير والنقاش كافيا أبدا. وجب مصاحبة التنظير بشق تنفيذي نحاول فيه حل المشكلة وتغيير الواقع المعاش - وهنا تتبلور العلاقة الجدلية بين النظرية والفعل. يغذيا بعضهما البعض. فالنظرية تساعد على فهم الواقع.. فنحاول تغييره. ننجح أحيانا ونفشل كثيرا. فنراجع أنفسنا ونعيد تفنيد النظرية، لنغيرها في دائرة أبدية من النقد والتحسين.
أعيد قراءة فريري بعد أن تجاوزت الثلاثين ... و بعد أن تملكني اعتقاد بأنني كنت قد تجاوزت مع نهاية عقدي الثاني ثنائية القاهر والمقهور ... فلم لا و نحن نعيش في عالم ال"ما بعد" أو ال post .. ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، وما بعد الإنسانية..
فماذا بعد ال"ما بعد"؟
"يزعم مناصري ال"ما بعد" أن صراع الطبقات قد انتهي"، قالها دونالد ماسيدو معلقا علي احتكار سياسات الهوية لرؤية العالم.
أغواني طرح نسبية الحقيقة في بداية المطاف. فنعم، الواقع معقد، والهويات متداخلة.. اختياراتنا كبشر يحددها عدد لا نهائي من المعطيات. مزيج متغير من القناعة والتربية والتجربة والمشاعر ... فكيف لنا أن نختزل كل تلك العوامل في كلمتي القاهر والمقهور؟ أليس الرجل الأسمر الكادح المعتدي على زوجته قاهرا ومقهورا في نفس الآن ... أليست سيدة المنزل البيضاء الغنية قاهرة ومقهورة في نفس الحين هي الأخرى؟
كلام واقعي، ولكن "حذار من فخ النسبية الأخلاقية". أقولها بصوت عال لأذكر نفسي بأن الوقوع في هلامية النسبية أقرب كثيرا مما قد يتخيل البعض
أعيد قراءة فريري، محاولا البحث عن أرضية فكرية صلبة... لعلها تساعدني على فهم ثنائية القاهر والمقهور بشكل أعمق. كنت دوما مهتما بالمقهورات والمقهورين.. كيف يتحررن؟ ما هي عوائق تمكينهم؟ وكيف لي كمدرس أن أتجاوز وأتحرر كلية من أغلال القمع التي تشربتها؟
إلا أن تلك المرة تختلف..
فاليوم، وبين ثنايا صفحات كتابه، أبحث عمن ولدوا قاهرين؟ وأتساءل: كيف يتشكل وعي من ولدوا في كنف رفاهية الكومباوند؟ أليس لهم الحق في بيداغوجيا خاصة بهم؟ أليس من حق طلبتي من رواد المدارس الدولية حق التحرر؟ أو بالأحرى واجب التحرر، وهم من قدرت السلطة بأشكالها لهم. فحياتهم في أغلب الأحيان متجذرة في قهر، يعيشونه ويستفيدون منه بدون إدراك. قهر عرفه فريري كأي "محاولة لاستغلال فرد ما، أو أي محاولة للإحالة بين تحقيق أي شخص لذاته" (ص٥٥) حتي و إن كان في إطار تعاملهم اليومي المحدود مع الخدم و السائق الخاص، في عالم يبدو و كأنه قد شيد فقط لراحتهم.
هل من الممكن استخدام أدوات فريري لتحريرهم - وهم النقيض الفعلي للمقهورين - حتى نستكشف معا امتيازاتنا؟ طبقا لفريري تلك الأدوات ليست ضمانة لأي شيء، فالقاهر "قد يعاني عند اكتشافه لقهره، إلا أن ذلك لا يعني إطلاقا تضامنه مع المقهورين بالمرة!" (ص ٤٩). كيف إذا نكشف الستار معا عن تواطؤنا؟ وكيف نحول هذا التواطؤ إلى تضامن حقيقي؟ وكيف أتجنب تحول الفصل لمساحة ماسخة للتعامل مع الإحساس بالذنب الطبقي، دون أي تغير حقيقي مادي في إختياراتنا؟ حتى لا تتحول محاولاتنا للانخراط مع الواقع إلى "كرما زائفا"، يتلخص في التبرع بأكياس رمضان وبطاطين للشتاء، دون أي اشتباك حقيقي مع الواقع و مسبباته.
**فهل بإمكان القاهر فعلا المساعدة في تحرر غيره من المقهورين؟
في البداية، تبدو إجابة فريري حاسمة: لا يمكن للقاهر أبدا أن يحرر. فالمقهورون هم الأكثر قدرة و "استعدادًا لفهم مغزى ورؤية حقيقة مجتمعاتهم القمعية" (ص 45). كلام منطقي ومتسق مع أفكاره عامة.
إلا أن صياغته تبرز اختلافا غاية في الأهمية بين "تحرير شخص ما"، و"النضال معهم من أجل التحرير". فهناك فارق بين تمكين الآخرين على التحرر، وبين تحريرهم. هناك فرق بين انتظار إنقاذ الغير لنا، وبين دعم قدرتنا لإنقاذ نفوسنا.
وهنا تظهر كلمة تضامن. فكيف يعرفها فريرى، وهي الكلمة التي تتكرر مرات لا تحصي في كتاباته؟
التضامن بالنسبة لفريري يعني "الدخول في حالة من نتضامن معهم" (ص ٤٩). التضامن هنا يتجاوز التعاطف. فبينما يجول التعاطف في نطاق الخواطر والمشاعر، يرتبط التضامن بالحركة وبالفعل. أي فعل إذن؟ أيعني هذا التنازل عن أي وكل الامتيازات التي أتيحت لنا؟ هل هذا طلب واقعي في عالم نلعب فيه دور القاهر والمقهور بنسب متفاوتة ومتغيرة؟
ردا على هذا التساؤل، يشرح لنا باولو الفرق بين الكرم الزائف والكرم الحقيقي. فالكرم الحقيقي هو الذي يمكن. فمن خلاله يقل احتياج أيادي المقهورين للمساعدة - خاصة من قاهريهم - فتصبح أياديهم قادرة على تحويل العالم (ص ٤٥). فكرم القاهر الحقيقي يحتم عليه تمكين غيره من كل جوانب حياتهم وقوت يومهم. والطرق لذلك متباينة ونسبية، فقد تتطلب أحيانا استخدام الامتياز لتمكين الغير، وفي بعض الأحيان الأخرى قد تحتاج إلي التخلي التام عن امتيازاتنا.
ولكن الأهم لتعميق التضامن في رأيه هو أن "يكف القاهر تماما عن استخدام "المقهورين" كفئة مجردة من إنسانيتها". التضامن يحدث فقط حينما تربط فكرة القهر المجردة بحيوات من يعيشون القهر يوما بيوم. حينما يراهم القاهر كبشر يعانون من الظلم، محرومون من أصواتهم، ومخدوعون في بيع عملهم. فالتضامن الحقيقي في هذه الحالة يصبح "مخاطرة حقيقية غارقة في الحب" (ص ٥٥).
تقول أنطونيا داردر في كتابها Reinventing Paolo Freire: A Pedagogy of Love أن إيمان فريري بالحب نبع من قدرة الحب علي تعميق الثقة في الغير. فالحب هو الذي تنتج عنه الثقة في قدرة طلبتنا على التصرف بإنسانية. والأهم فهو الذي يؤجج ثقتنا في قدرات أخواتنا في الإنسانية على تشريح واقعهم وتغييره. فيجب علينا أن نحب طلبتنا ونثق في قدرتهم علي رؤية امتيازاتهم و تشريحها. يجب علينا أن نسعي معهم لطرح أسئلة تدفعهم للمقارنة بين أوضاعهم المريحة و أوضاع غيرهم من البشر.
أما لب الأنسنة فهو قائم علي بناء علاقات حقيقية مع من لم تختارهم الدنيا ليكونوا أصحاب امتيازات. أنسنه تتجاوز الفروقات الطبقية، والعرقية، والجنسية، والعمرية، والجسدية وغيرها.
ففريري معروف بماركسيته، والتي بسبب ماديتها الجدلية جعلته حبيسا في خيال محبيه. حبيسا للمادة في فهمهم لكتاباته. نعم، يبقي الواقع المعاش بالنسبة له، كغياب المال والطعام والتعليم، هو المعيار الأساسي والملموس للقهر، وهو ما يجعل الصراع الطبقي القاسم المشترك بين جميع أنواعه. هكذا يؤكد علي قابلية لمس القهر ورؤيته.
وفي اعتقادي، فإن تلك كانت محاولة منه لوضع شخصه علي مسافة ما من النسبية الأخلاقية التي يوصم بها البعض أفكار "ما بعد الحداثة"، و التي يصفها هو "بتمحورها حول ذاتها" لأنها "تحول الاعتراف بالقهر و آلياته إلى نوع من الصبر المعيق، الذي ينتظر اختفاء القهر من تلقاء نفسه" (ص 50).
من المهم هنا تذكير أنفسنا بأن أفكار فريري لم تكن فقط ناتجة عن ماركسيته، بل أنه تأثر بأفكار من كل حدب وصوب. ديوي أثر عليه بأفكاره التقدمية عن نسبية التعلم وحتمية حفر كل متعلمة لطريق التعلم الذي تحتاجه هي دونا عن الآخرين. كما أنه تأثر بالدين تأثرا عميقا، وبمدارس اللاهوت التحرري في أمريكا الجنوبية وخاصة تفسيرات جوستافو جيتيريز المتمحورة حول العدالة الاجتماعية، وانتفاضة المهمشين.
ولعل هذا التنوع الفكري يفسر تأكيد فريري على أهمية "التجربة الشخصية" في التباين في فهم القهر والإحساس به، لأن "إنكار أهميتها هو أمر ساذج ومبسط"، ويدعو بالتبعية إلى تصور لعالم "بدون أشخاص" (ص 50). فكل شخص له تفسيره الخاص بالقهر، والذي يرتبط بعدد لا يحصي من الصفات والخصائص الشخصية والبيئية سواء.
يقرأ الكثيرون منا فريري بعدسة ديالكتيكية، ويفسرونها بشيء من التصادمية، مما يشكل معضلة في فهم سبل تفاعل أطفالنا مع امتيازاتهم ومع غيرهم بشكل صحي يساعدهم علي أشكلة واقعهم و التعامل معه براغماتية تدفعهم لتغييره؟
فهل بإمكاننا تعليم أطفالنا معني التضامن الذي يطرحه فريري؟ تضامن يحركه حب الغير وأنسنتهم. تضامن حقيقي وليس زائفا؟
هل من مآل؟
هذه بعض الاستنتاجات الشخصية حول كيفية أشكلة تفاعل القهر مع الامتيازات عامة
١ - تجربة الطلبة اليومية هي أفضل مكان للبداية، حتى وإن كانت امتيازاتهم طاغية علي واقعهم.
فشعورنا الشخصي بمشاكلنا حقيقي ولا يصح لفظه أو التقليل منه، حتى وإن بدي تافه بالمقارنة بمشاكل الغير. أعتقد أنه من المهم أيضا ممارسة وضع مشاكلنا في سياق أشمل و أعم. من خلال Problem Posing Dialogue أو الحوار المدفوع بالأسئلة، بإمكاننا دفع الطلبة للتساؤل عن أصل الأشياء وفهم الواقع. البداية من تجربتهم تدفعهم لفهم القهر الذي يمرون به بالرغم من امتيازاتهم.
٢- تشريح القهر وفهمه مفتاح لخلق معني واسع للتضامن.
القهر الطبقي هو واحد من أنواع كثيرة للقهر. البنات في المدارس يعانين من القهر بالرغم من موقعهن الطبقي، من خلال ممارسات مدرسيهم أو في حياتهم اليومية. قدرات الطلبة الجسدية في أحيان كثيرة تؤدي إلي أشكال مختلفة من التنمر، كما أنا الفروقات الطبقية الطفيفة تؤدي في كثير من الأحيان إلي التنمر في المدارس الخاصة. تشريح هذه الأنواع من القهر واستكشاف تركيبها الذي يتقاطع مع الجنس، والعرق، والعمر الخ، باب لخلق تضامن حول القهر.
فكلنا قاهرون ومقهورات بنسب متفاوتة.
٣- أنسنة الآخر لا تحدث من خلال الكتب. التفاعل مع الآخر يأنسنها.
طلبتنا قد يعانون من الانعزال المجتمعي، إلا أنهم في نهاية المطاف محاطون ببشر في دوائرهم المغلقة تلك. بإمكاننا اغتنام الفرصة لتطبيق أفكار فريري عن معادلة السلطة بين المدرس والطالب، عن طريق الإخلال بتوازنات القوة بينهم وبين من حولهم. إن كن محاطات بمربيات مثلا، فلنبني مناهج تضعهن في مواقع التلقي. من خلال تعلم شيء ما أو مجاورتهن لإدراك صعوبة العمل
٤- إعادة تعريف معني الكرم؟
الكرم أو التبرعات والصدقة كلها أشياء محمودة. أعتقد أن مشكلتها تكمن في تخيل أنها قد تؤدي إلي تغير جذري. مساعدة الغير مهمة، لأنها قد تؤدي في النهاية إلي تمكين البعض من معطيات الحياة. أزعم أن إدراك الفرق مهم. لنحاول دوما تجنب مساعدة الآخر، ولنسعي دائما إلي تمكين المقهورين.
.
المصادر:
Darder, A. (2017). Reinventing Paulo Freire: A pedagogy of love. Taylor & Francis.
Freire, P., & Ara, A. M. (1998). Pedagogy of the heart. Bloomsbury Publishing USA.
Freire, P. (1996). Pedagogy of the oppressed (revised). New York: Continuum.