علمني أونلاين

‫أحلي حاجة في موضوع نقل الدراسة أونلاين، إنه بيواجهنا كمدرسين بأي نواقص أو عيوب في أساليبنا التعليمية ... و الحقيقة مافيش مدرس/ة في الدنيا (حتي أجعصهم كفاءة و أكثرهم إبداعا) ما عندهمش "لزمات تدريسية" .. حركة أو روتين بيرجعولهم كل ما بيتزنقوا أو بيزهقوا .. فيه مثلا كتير مننا عندهم نزعة لإلقاء المحاضرات في الفصل .. بيحبوا يعيشوا في دور عبد الناصر ... دول أغلب الظن كان نفسهم يسلكوا العمل السياسي أو فشلوا في التمثيل، فقرروا يطلعوا مواهبهم المكبوتة علي الطلبة ... بيفضلوا يتكلموا تلتين الحصة لحد ما العيال تشَخَّر و ماتكونش طايقة تسمع صوتهم تاني يوم .. أعتقد إن دول مش محتاجين أي حاجة في العالم غير كاميرا و سابورة لنقل المهنة للعالم الإفتراضي .. و هاتك يا رغي بقي ... هنا طبعا الطالب هيقوم بكل بساطة و أريحية قافل فيديو المحاضرة و فاتح Call of Duty. و ده لأنه إنسان بيفهم و بيشغل مخه ... مدرك إن طبيعة السلطة في اللحظة ديه اتغيرت و ما بقتش مع المدرس .. ما هو مافيش درجات، و مافيش زعيق ولا عقاب ... بس فيه زراير minimize و pause و delete. ‬

‫فيه مننا برده المتعودين علي روتين معين عمرهم ما بيغيروه ... نمط رتيب مستحيل كسره ... حاجة كده شبه النظام التالي: محاضرة - ربع ساعة، قراية - ١٠ دقايق، إجابة كتابية علي الأسئلة - عشر دقائق كمان، مناقشة الإجابات - خمسة عليهم، و نختم طبعا بخمس دقايق في آخر الحصة، لزوم المشاركة و إختلاف الرأي لا يفسد للود قضية و كده. فيه كمان نوع تالت من بتوع "الإبداع المسيطر" .. دول بقي يدوك إيحاء الإبداع .. بوسترات و أفلام و حاجات شكلها حلو .. بس كل الفيديوهات و البوسترات سبحان الله في الآخر بتطلع نسخة طبق الأصل و شبه بعض في كل حاجة .. و ده لأن المدرسين دول بيكون عندهم شكل واحد للإبداع. فكرة مسبقة عن الإبداع الحلو و الوحش .. عن الصح و الغلط .. فالفيديو الحلو شكله لازم يكون كده، و الرسمة الصح مينفعش يكون فيها ده. أفتكر المدرسين اللي بيعملوا ده هم أخطر نوع، لأنهم في الحقيقة بيقيدوا الإبداع بدل ما ينموه ... بيخلقوا مناخ من السيطرة المقنَّعة، لأنهم بيكونوا محتكرين للإبداع .. و في نفس الوقت، بيغذوا في الطلبة فكرة إن الإبداع ليه شكل محدد، لازم يطبق بحذافيره. ‬

‫مش عايز أزعم إن فيه شكل غلط و صح في التدريس .. فيه لحظات بتحتاج كل أسلوب من أساليب التدريس اللي تم طرحها، بناء علي الموقف و الاحتياج .. إلا إن موضوع نقل الدراسة أونلاين بيدينا فرصة نعيد صياغة علاقتنا مع التعلم بشكل عام، و إعادة تعريف علاقتنا مع الطلبة بشكل خاص... العالم الإفتراضي بيحطنا في تحديين حقيقيين. التحدي الأول ليه علاقة بالإخلال التام بموازين القوي اللي النظام التعليمي أسسه قائمة عليه .. ما إحنا في الفصل متعودين نكون ملوك المكان .. كلمتنا مسموعة .. بنأمر و بننهي .. و لما بنتنازل عن سلطتنا بيكون بمزاجنا .. و ده لأننا دايما عارفين إن فيه أدوات قسرية تحت أمرنا، ممكن نستدعيها في أي لحظة بنحس فيها بالخطر، بسبب تقصيرنا أو عدم كفاءتنا في أحيان كتير ... فممكن نشد إنتباه الطلبة و همَ ملانين بالزعيق، و ممكن نغصبهم علي السكوت بالدرجات، و في أسوأ الحالات ممكن نوقف الشقاوة بالفصل أو العقاب ... (و كل ده طبعا لا يمنع إن ساعات فيه طلبة بنت ستين كلب مشاكلهم أعقد بكتير من إن مدرس يحلها). بس في كل الأحوال الإنترنت بيغير من طبيعة الأدوات ديه و بيقلل من حدتها، مع إنه مش بيلغيها.‬ ‫ ‬ ‫التحدي التاني، ليه علاقة بالأول بس مرتبط أكتر بشق الممارسة التربوية ... نقل تجربة التعليم التقليدي أونلاين بيفرض علينا نعيد تعريف جغرافيا التعلم ... بيزقنا نشوف الجغرافيا بمعناها العام و الأشمل .. كمساحات بتتجاوز الملموس و المطلق .. في الحالة ديه المساحة مش بتكون مقصورة علي الفصل .. مش بتتكون بس من أربع حيطان، و مش شرط خالص تتقاس بالمتر. الفصل دلوقتي بيتحول لشيء إفتراضي، فبيتغير معاه طبيعة التفاعل و الفهم. دلوقتي مثلاً عندنا فرصة لتجاوز الكتاب كمساحة محدودة جدا للمنهج، و نبدأ نبص علي تيك توك و فيسبوك و انستاجرام و يوتيوب كمساحات عندها المناهج بتاعتها، إللي في الأغلب تأثيرها بيكون أعم و أشمل، من أي حاجة بنزغطها للطلبة. ‬

‫ممكن مثلا نحلل هاشتاج كورونا و نختبر تويتر كمساحة، بتعكس مصر الملموسة .. و نشوف إيه الأنماط اللي بتخلي الناس تتفاعل مع خبر معين و خبر تاني لأ .. أو نشوف مع الطلبة إزاي مثلا فيديو زي بتاع مي الخرسيتي انتشر، و نحلل معاه المصدرين اللي هي هريانا بيهم، و نقيمهم. بالطريقة ديه، فهم الطلبة لما تمثله كلمة مصر ممكن يتعقد لأنه بيدي معاني تانية كتير لحاجة زي الإنترنت، بنقضي عليها أوقات مطولة. "مصر" في الحالة ديه بتبطل تكون مقصورة علي الأبنية و الطرق .. و بتبدأ تتعدي الأفكار النمطية عنها كوادي و دلتا و بحرين بجو دافيء شتاء و معتدل صيفا ... في المقابل بيكون فيه فرصة نتعلم مع طلبتنا إزاي فيه مزج بيحصل بين الملموس و الإفتراضي - و الطرق اللي بيأثروا بيها علي بعض .. إزاي مثلاً فيديو علي مساحة "افتراضية" عن كورونا كمؤامرة أمريكية صهيو-صينية، ممكن يأثر علي سلوك الناس في الواقع، و يخليهم ينزلوا و ينشروه .. بل و يكون ليه تبعات حقيقية و ملموسة علي الناس اللي بنسميهم "مصريين" في كتاب الدراسات دول. ‬

‫الحقيقة، أنا لسه بحاول أكتشف طبيعة المساحات اللا نهائية ديه، و سبل إدماجها .. التدريس في الآخر ممكن يكون رحلة لا تنتهي من التجربة المستمرة ... بس الأكيد ، إن فيه فرصة نكسر القيود اللي بتتحط علينا كمدرسين، و نتعامل بذكاء و إبداع مع واقع جديد بيجبرنا علي المساواة بين سلطتنا و سلطة الطلبة بتوعنا.