أنا "دِيُّو" (١) - عن المدارس الدولية و الكوميونيتي و أشياء أخري
لما سُئِل عن الكوميك بتاعه، اللي بيؤرخ للحياة في برلين في العشرينيات، و عن إستخدامه لجرايد من الحقبة ديه كمصادر لإبداعه، رسام الكوميكس جيسون لوتس شبه التاريخ الإنساني بالنهر العريض المتدفق ... و اللي كل قصة من قصصنا فيه، ما هي إلا عبارة عن سرسوب ميَّه، مستحيل تفرقه عن اللي جنبه .. كل سراسيب الميَّه ديه بتخش علي بعض و بتكون في الآخر نهر كبير أو قصة كبيرة متكونة من مليون قصة، متلعبكة في بعض.
الأجمل في التشبيه، هو تصويره لصفحات الجرايد كحجر مرمي في وسط جريان الميه القوي .. كل حين و التاني فيه قطرات بتطرطش عليه علشان تسجل لمحات من قصص ... قصص قد تكون مزيفة بشيء من الحقيقة .. أو حقيقية بشيء من الزيف.
حسيت إن التشبيه ده بيمثل أحسن طريقة إني أفكر نفسي أولا و أخيرا، بقد إيه الشهادة ديه مش مهمة ... هي شهادة شخصية عن تجربة ليها خصوصيتها زي كل تجربة تانية في الدنيا ... شهادة مكتوبة بمحاولة لإدراك الإمتياز اللي خلاها تكتب في الأصل، و تصدق في أحقية الحجر بتاعي إنه يترمى في نهر التاريخ الإفتراضي ... مكتوبة بإيمان حالي إن شهادات المستضعفين ليها كل الحق في نصيب الأسد في نهر التاريخ، بدون أي تمجيد كداب للمقهورين .. وبقناعة إن أهميتها الوحيدة تكمن في كونها سرسوب ميه آني في نهر ملايين الشهادات الحية في ذاكرة من عاشوها، عن إشتباكات حصلت مع التعليم المصري بكل أنواعه و أشكاله.
و دمتم
لغاية النهاردة شكل أمي محفور في مخي .. مش هنسى أبدا نظرتها و هي مليانة فخر و إنشكاح، لما فتحت ظرف القبول اللي علم ألمانيا كان منور عليه، و كان مكتوب جنبه بالبنط العريض "المدرسة الألمانية الإنجيلية بالدقي" .. فاكر إزاي يوميها أمي عصرتني جامد بين دراعاتها لمدة لا تقل عن دقيقتين ... كنت بحاول أفلفص منها بأي شكل لأني مكنتش عارف آخد نَفَسي .. فاكر كمان إني ما كنتش فاهم الحماس ده كله جاي منين .. ساعتها كنت علي أعتاب رابعة إبتدائي ... و هي كانت خدت القرار المصيري إنها تنقلني من مدرستي اللغات الناشونال لمدرسة جديدة، المفترض إنها "أحسن" ... شخصيا، ما كانش عندي أدني فكرة اشمعني المدرسة ديه، ولا ليه هي أحسن ... بس حصل ..
أعتقد إن سعادة أمي اللي حسيتها من حوالي عشرين سنة كانت كاشفة عن حاجة، مبدأتش آخد بالي منها غير مؤخرا. الفخر بتاعها ده، لاحظت مع الوقت إنه تسلل لي بشكل أو بآخر. نوع من الكبرياء، علي طول بيبان في عيون كتير من عشيرة الديو، أول ما بنكشف للمستمع عن انتماءنا المدرسي ..صوت متغطرس ممكن ناس كتير ما تعترفش بوجوده .. لمعة ما، بتعكس إعتزاز غير معلوم مصدره.. بس هو مش إعتزاز فج لدرجة تخليه تعالي .. هو هادي و مستخبي و مغلف بثقة صعب تحط إيدك عليها .. ثقة تتحس في الحركات المستخبية .. في المشية و طريقة الكلام .. ثقة تتشاف في بصَّة بتقول أنا مش محتاج أثبت نفسي لحد ...
لأني ديو.
بس إيه سر الكبرياء المتخفي ده ؟ إيه الجديد يعني في الموضوع .. مدرسة كويسة زي أي مدرسة تانية بفلوس في مصر، اللي الطبقية و أوسخ أشكال الرأس مالية متمكنة منها . عادي مدرسة إنترناشونال بتدي لغة تانية مهمة، و شهادة تخليكي تعرفي تسافري ألمانيا و تتعلمي هناك زيك زي أي مواطنة معاها الجنسية ... بس تاني، كل ديه حاجات عادية و بديهية موجودة في أي تعليم بفلوس في البلد ... في رأيي الأسباب ديه مش كافية للإجابة علي سؤالي ... الشعور الدفين بالاعتزاز ده جاي منين ؟
أفتكر إعلان مدينتي اللي الدنيا مقلوبة عليه، بيحمل بين طياته ملامح الإجابة .. خصوصا في مفهوم "الكوميونيتي" اللي الإعلان طرحها و وصفها بأنها "كلها شبه بعض" .. نتفق أو نختلف، فتواجد مجتمعات المدارس الخاصة الدخيلة بأفكارها و مناهجها، ما هو إلا شهادة علي فشل الدولة في إنها توفر تعليم محترم .. نتفق بردو أو نختلف، فالمدرسة الألماني كوميونيتي واضح و صريح المعالم، طبقا للتعريف المذكور أعلاه. مجتمع متجانس إلي حد كبير و له صفات نمطية بتجمعه، بتخلي أعضائه يحسوا بالانتماء ليه بشكل أو بآخر .. فيه ناس مثلا بتشوف خريجي الديو عيال بيض و مكلكعه و شايفة نفسها ... و فيه اللي هيشعروا فينا و يقولوا شغيلة و دغري و دماغهم حلوة .. و فيه كمان اللي مش هيشوفنا غير كشوية عيال فرافير متدلعة إشترت تعليمها بامتيازاتها ... و فيه اللي شايف العكس تماما، و بيقول إننا بنات/ولاد بلد و متأسسين كويس في العربي.
الإجابة في الأغلب موجودة في مكان ما في النص بين كل الصفات اللي تم ذكرها. أصل الديو أي نعم مدرسة دولية، و لكن طبيعتها تختلف عن مدارس إنترناشونال كتير تانية .. فكلفتها مثلا بالرغم من كونها عالية إلا أنها في نفس الوقت نسبيا أقل بكتير من مثيلاتها من المدارس اللي بتقدم نفس الخدمة ...
في سنة ٢٠٠٠ مثلا مصاريف المدرسة كانت ٥٠٠٠ جنيه مصري ... المدارس اللي زيها كانت بخمستاشر ألف و أنت طالع ...
جزء كبير من ده راجع لكونها مدعمة جزئيا من قبل الحكومة الألمانية، اللي تبنت سياسة التلاقي الحضاري "Begegnung" في السبعينيات لنشر الثقافة و تدعيم التواصل بين ألمانيا و دول كتير في العالم. الكلفة "المتوسطة" ديه كانت بتخلي أهالي كتير تيجي علي نفسها علشان تدخل أطفالها المدرسة .. و الحقيقة إن كل كام سنة، كان فيه إشاعات بتطلع ما بيننا إن الحكومة الألمانية هتقلل الدعم، و أن المصاريف هتتصاعد .. بالنسبة لي شخصيا، ده كان في أوقات بيمثل ضغط مادي علي أهلي .... بس هي ديه نفس الظروف اللي خلت النسيج الإجتماعي بتاع المدرسة مركب و فيه خلفيات إجتماعية و دينية و ثقافية متباينة. ما بين أهالي متدينين، و أهالي ملاحدة ... و ما بين أهالي عندهم قومية مصرية عتيدة و أهالي تحسهم بيمجدوا ألمانيا فوق كل شيء ...
و بلا شك ، كوميونيتي المدرسة الألماني نتاج مصر الطبقية .. بس حتي الطبقية ديه ليها أبعاد كتير .. لذلك تحليلها لازم يتجاوز محدودية العدسة الماركسية لفهم فكرة الكوميونيتي، و ينقلنا لما هو أكثر إدراكا للعوامل اللي خلت المجتمع ده يبان متجانس من الأساس - بالرغم من تفاصيل الاختلافات اللي ذكرتها - و مخلي مرتاديه عندهم إحساس عام بالتفرد.
زي إن المدرسة الألماني نتاج مدارس تبشيرية دخلت البلد في عصر الاستعمار - و اللي كل فصيل و جنسية فيها كان ليه خصوصيته بالمناسبة. فالألمان الإنجيليين مثلا كانت فلسفتهم و عقيدتهم التبشيرية مختلفة تماما عن الفرنسيسكان الكاثوليك ...
و إن ثقافة المدرسة نتاج تاريخ ألماني معقد - تاريخ بسط لأوروبا هويتها الفكرية المعاصرة بإرثه الفلسفي و السياسي، و ليه ماضي إستعماري نادرا ما بنتكلم عليه .. ده غير طبعا النازية اللي عرفت القرن اللي فات، و محاولات ألمانيا المستميتة لتغيير الصورة ديه ...
حتي "كوميونيتي" المدرسة الألماني ده، متأثر بعلاقة معقدة مع الخواجة اللي الألماني بيمثل فيها المنقذ بعلمه و تفكيره العلمي .. و بيمثل الشيطان بمعاييره العلمانية .. و طبعا نتاج لفرد الدولة الناصرية لعضلاتها علي التعليم الأجنبي في مصر ...
هحاول الفترة اللي جاية استكشف إزاي التفاصيل ديه كانت بتُجَسد في تعاملاتنا اليومية و في المواقف اللي قابلتنا كطلبة مع بعض ... و مع المدرسين - اللي أغلبيتهم كانوا ألمان ... و مع أهالينا اللي أغلبيتهم كانوا مصريين ... تفاصيل منقوشة في جماليات المدرسة ... في مبانيها و لبسنا ... و حتي في أكل الكانتين بتاعها ... لأن في نهايه المطاف تراكم الممارسات ديه هو اللي خلق ثقافة خلتنا نعرف نفسنا كجماعة .. ككوميونيتي ...
كدِيُّو
يتبع