أنا "دِيُّو" (٢) - عن المناهج المستخبية في المدرسة الألمانية

التدوينة اللي فاتت وعدت أني هحكي عن تجربتي الشخصية مع المدرسة الألمانية الإنجيلية بالدقي ، كذكر مصري خريج دفعة ٢٠٠٨... فيه حاجات كتير أكيد اتغيرت .. بس حاجات تانية فضلت زي ما هي .. و ديه محاولة للبعد عن أي تعميم و أي تقييم مبني علي ثنائيات الكويس أو الوحش ... محاولة لإستكشاف درجات الرمادي المتواجدة بين الأبيض و الأسود، و اللي خلت المدرسة يكون ليها ملامح بتخليها مجتمع .. بتخليها "كوميونيتي".


في علوم التربية، فيه مصطلح إسمه "hidden curriculum" أو "المنهج المستخبي" .. منهج موجود بين السطور .. في أفكار مستخبية بتتسرسب جوانا من غير مناخد بالنا .. زي كده لما نحل مسألة حساب كلامية بتحكي عن زوجة واقفة في المطبخ و يكون مطلوب مننا حساب مقادير الكيك اللي بتخبزها لأطفالها ... من بره المسألة شكلها بسيط ... منهجها "المتشاف" هو الجمع بين مهارات الطرح و الإضافة و الضرب .. بس المنهج المستخبي هنا بيكمن في التفاصيل .. في إختيار مصطلحات "زوجة" و "طبيخ" و "عيال" في جملة واحدة .. بيفرض أفكار عن دور الست و الزوجة في المجتمع... و لو استبدلنا كلمة "زوج" "بزوجة" المنهج المستخبي كان هيبقي موجود بردو، بس بأفكار معاكسة ..

المنهج المستخبي ده حاضر في جوانب مختلفة في حياتنا ... في الإعلانات و في كلامنا .. في الدراما و في تصميم المباني ... تفاصيله بتخلينا نقول في نهاية المطاف علي حاجات بعينها إنها "طبيعية"، و حاجات تانية إنها "غريبة" .. فده المنهج اللي محصلته غرست جوانا قناعات ما، زي إن المكان الطبيعي للست هو المطبخ ...

طب إيه طبيعة المنهج المستخبي الحاضر في المدرسة الألمانية؟ و إيه الأفكار و القناعات اللي مساحة المدرسة بتحاول تطبعها في حياة الطلبة اليومية؟


من أول وهلة، و شعور إن المدرسة الألماني غريبة و مختلفة عن البيئة اللي متواجدة فيها بيهيمن علي أي زائر .. قطعة ألمانية منحوته في وسط حي الدقي .. حي الدقي اللي بيرمز للطبقة المتوسطة المتعلمة بشرايحها المختلفة، هو في إعتقادي أحسن رمز لما تمثله المدرسة من إشتباك حقيقي مع إشكالية فكرة الكوميونيتي اللي المدرسة بتخلقها.

فمن اللحظة اللي بتدخلي فيها من البوابة، و اللي بيستقبلِك فيها ع. ك "مسئول الأمن"، و "ألمانية" المدرسة بتلاحقِك في كل خطوة .. ع. ك. ما كانش مسؤول أمن بالمعني المعتاد للكلمة في مصر ... بل حاجات كتير فيه كانت شبه الألمان (أو صورتهم النمطية بمعني أصح) .. دغري و واضح .. مالوش في اللف و الدوران .. منمق و هادي و متجنب لأي أفورة في ردود الفعل ... كان حاسم في مواقفه معانا و مع أهالينا سواء .. من غير أي مجاملات أو محاباة ...

في بداية الألفينات مثلا ، المدرسة جالها بلاغ كاذب بوجود قنبلة موقوتة في مكان ما .. طبعا حصل قلبان و هلع و نزلُّوا المدرسة كلها في الملعب .. بالنسبة لنا كطلبة الموضوع كان فرصة ذهبية لتضييع الحصص .. بس بالنسبة للأهالي القلق تمكن منهم، و كتير منهم تكابلوا علي البوابة علشان يدخلوا ... اليوم ده أثبت سلطة ع. ك. الحقيقية .. كان فيه قصة متداولة عن إزاي كان صارم في رفضه لدخول أولياء الأمور ... يوميها رجالة بشنبات و ناس واصلة في البلد وقفت عاجزة أمام سلطته في تحدي تام للأعراف الطبقية و الإجتماعية...

الصلاحيات اللي كانت في إيده، و قدرته علي تطبيقها بدون تهاون، هي مجرد لمحة و مقدمة "لألمانية" المدرسة، اللي كانت طاغية علي جوانب مختلفة فيها ... سواء كان في تصميم مبانيها بخطوطها الواضحة، و لونها البيج البسيط ... المُطَعَّم بألوان الأزرق و الأخضر و الأصفر و البرتقالي ... كل لون من دول كان بيرمز لمرحلة عمرية مختلفة ... و ديه حاجة إكتشفت إنها معتادة في المدارس في ألمانيا، بعد رحلة تبادل طلابي، المدرسة نظمتها للصعيد الألماني الجواني ...

أو في أسامي شوارع و ميادين المدرسة اللي كانت أغلبها بالألماني، و معظمها كان لمدراء المدرسة السابقين ... زي مثلا "كارل ألبان" ... حتي أشهر ملعب في المدرسة و اللي كنا بنتجمع عنده علشان نلعب كورة و سلة ، كنا بنسميه "Dokki Platz" .. و اللي ترجمته الحرفية معناها ملعب الدقي .. بسبب موازاته لشارع بنفس الإسم .. بس لسبب ما عمري ما سمعت حد فينا بيسميه "ملعب الدقي" ..

بالعربي.

حتي في الفصول، الهوية الألمانية كانت متواجدة بشكل أو بآخر ... بسبوراتها العريضة اللي بتقفل و بتفتح زي الكراسة، و بتجيب تلاتِربَع الحيطة و هي مفتوحة .. أو في دفايات الغاز المدهونة أبيض و متركبة بعرض الحيطة كلها .. الديو كانت أول مدرسة في حياتي أشوف فيها حنفية بحوض في الفصل .. لزوم الغسيل و النظافة و كده .. حتي في جودة الديسكات الخشب و الكراسي المستخدمة، المدرسة كانت ألمانية بشكل نمطي ... فبالرغم من هلكنا ليها كانت نادرا ما بتتكسر ..

شكل الحرية جوَّا المدرسة كان هو كمان مختلف عن بقية البلد ...في الدِيُّو مثلا كان من حقك تلبس اللي أنت عايزه ... عايزة تروحي المدرسة بشبشب زَنّوبة، براحتك ... عايز تلبس شياكة بردو تمام ... حرية اللبس ديه في إعتقادي ظهر معاها بردو أشكال من الضغط المادي علي الأهالي للحاق بركب الموضة و الماركات .. بس كمان خلقت أنماط إستهلاكية مربوطة بألمانيا .. خصوصا في السن الصغير ... زي مثلا الشنط ال Scout اللي كتير من الأطفال شالوها علي ضهرهم .. شنط صفرا و مربعة و ليها شكل فريد، و طبعا ألمانية بامتياز .. أو المقالم و أقلام الحبر اللي بتتجاب من ألمانيا .. أو صنادل Birkenstock الجلد .. بغض النظر عن تمن المنتجات ديه .. بس رمزيتها كانت بتعكس إرتباط موجود حتي في أنماطنا الاستهلاكية ...

كطلبة تفاعلاتنا ما بيننا و بين بعض كانت محكومة بمباديء علمانية بحته ... مبدأ خليك في نفسك ، و أنت حُر ما لم تضُر ... المدرسين مثلاً ما كانوش بيتدخلوا، لو ولد و بنت باسوا بعض في الحوش .. بس ده طبعاً كان مقبول من زمايلنا الألمان أكتر مننا المصريين ... في حالات كتير المدرسين المصريين، كانوا ممكن يحمّونا بكلام حاد، لو شافوا منظر مش عاجبهم .. بس كان كلام .. كنا عارفين إن ما كانش عندهم سلطة فعلية يوقفوه..

و في الحقيقة، هامش الحرية الواسع ده مش معناه إن أولياء الأمور ارتضوا بيه بمحض إرادتهم .. بل بالعكس، كتير منهم كانوا محافظين .. إلا إن ده كان من التنازلات الأساسية اللي كان ينبغي إستيعابها و هضمها لما خدوا قرار إلحاق أطفالهم بالمدرسة ... معروف مثلًا إن المدرسة طلبت من الأهالي في الحضانة تحضير نفسهم لفكرة إن أول بوسة لولادهم هتكون فيها .. و إن ده شيء طبيعي و لازم يقبلوه ... شيء ممكن ناس كتير تستغربه ... بس طبعا طرق تعامل الأهل مع الحرية ديه كانت متفاوتة و مختلفة .. و ده موضوع يتكتب فيه تدوينة لوحده -

اللي بيقرا غالبا بيتساءل دلوقتي .. أمال فين الهوية المحلية في كل ده؟ كل الصفات ديه بحلوها و مرها ، بتعكس هيمنة ألمانية بشكل ما ... فهل ده معناه أن الهوية المحلية ماكانش ليها أي مكان في المدرسة الألماني؟

و هل منهج المدرسة المستخبي كان هدفه خلق "كوميونيتي" مصري الشكل بس ألماني المضمون ... بقيمه و أفكاره و تقاليده؟

و ليه أصلا فيه أهالي مصريين ممكن يقبلوا بالمعادلة ديه لو حقيقية؟

يتبع ...