أنا "دِيُّو" (٣) - الدويتش فينا و ربنا هادينا

نهيت التدوينة التانية بالسؤال التالي:

هل الهوية المحلية ماكانش ليها أي مكان في المدرسة الألماني؟ و هل منهج المدرسة المستخبي كان هدفه خلق "كوميونيتي" مصري الشكل بس ألماني المضمون ... بقيمه و أفكاره و تقاليده؟


كلمة "محلي" ديه فيها إشكالية كبيرة أصلا ... ما هو يعني إيه "محلي" من الأساس؟ هل هو الإسلامي ولا المسيحي ولا الفرعوني؟ هل هو النوبي ولا البدوي ولا البحراوي؟ طب و لو إفترضنا إن الإسلامي جزء من "محلية" الهوية، هنختار أنهي فهم إسلامي بالضبط؟ أو أنهي شكل للمسيحية؟


بغض النظر عن تفاصيل التعريف، أي إدعاء بأن خصائص المدرسة الغربية محت كل أثر ثقافي محلي منها، هيكون إجحاف تام بحق الديو ... مش هنسى مثلا إزاي مدرس الدين كان بياخدنا نصلي في مسجد المدرسة .. المسجد ده كان قد الكنيسة مرتين ، و ده أكيد ليه دلالة، لو وضعنا في الاعتبار إنها في الأصل مدرسة إنجيلية .. ده غير إن كان فيه إهتمام ما بمادة العربي، و اللي في أحيان كتير بيكون غايب عن مدارس دولية تانية ..

أظن كمان إن مدرسين العربي و الدين ساهموا - إلي حد ما - بخلفياتهم المحافظة، في التأثير علي رمانة الميزان الثقافية، بمزيج جامع بين التطفل و حسن النية ... و ده بالرغم من إن آرائهم و تدخلهم افتقروا في أحيان كتير للزاوية النقدية اللي الجانب الألماني كان بيغذينا بيها ... آراء كانت مقيدة بتعريف المجتمع للصح و الغلط ... زي لما أستاذ العربي دردش مع ولاد الفصل مرة عن حرمانية العادة السرية، و إزاي إنها "بتخليك زي الحنفية" ... أفتكر كان قصده ساعتها سرعة القذف .. و ده رأي إختلف تماما عن طرح أستاذة الأحياء الألمانية، اللي كانت بتعلمنا إن ممارسة العادة السرية باعتدال شيء صحي و حتي مفيد ...

طبعا، تجربتنا كذكور كانت مختلفة تماما عن تجربة زميلاتنا المصريات ... و اللي بحكم الميل المجتمعي للسيطرة علي أجسادهن و تصرفاتهن، اضطروا يتعاملوا مع إختلافات العوالم ديه بشكل أعقد بكتير مننا، بين بيت و مدرسة و مدرسين (مصريين و ألمان) و مجتمع ... و ديه حاجة محدودية تجربتي، هتفشل في نقلها لو حاولت ...

مكان المدرسة الجغرافي بردو عقد فهمنا لإمتيازاتنا و هوياتنا ... فبجانب إن المدرسة كانت في وسط القاهرة .. بكل صخبها و حيويتها .. إلا إن تلاصقها مع "مدرسة الأورمان الثانوية بنين" كان ليه تأثير مش قليل علينا ... منطقي جدا إن بالنسبة لطلبة مدرسة من خلفية مختلفة ، شكلنا - بثقافتنا الدخيلة - كان شباب "سيس" مع بنات "مش تمام" ... و ده طبعا كان تربة خصبة كفيلة لبناء علاقة من الشد و الجذب، فرقعت أي إحتمال لتقوقعنا داخل بالونة المدرسة.

كنت زمان بشوف إن تداخل المساحات ده خلق ميكس بين المصري و الألماني، و خصوصية للمجتمع المدرسي ... بني فهم لواقع مصر "الحقيقي" اللي محتاج عدالة إجتماعية أكتر .. بس كمان إدراك "لعيوب" الشخصية المصرية اللي " لازم نغيرها" بالعمل الجاد و الدقة اللي من المفترض إننا اتعلمناهم من الألمان ...

بغض النظر عن صحة المقولة من عدمها - بما إن فيها شيء من الحقيقة و كتير من العجرفة - بتساءل لو العدالة الإجتماعية فعلا قيمة اتزرعت فينا ؟ العدالة بين المصريين و بعضهم .. و الأهم العدالة و المساواة بين ما هو ألماني و ما هو مصري؟

الإجابة علي السؤال ده فعلا صعبة ....

صعبة لأن المدرسة بلا شك كانت متأثرة بالثقافة الألمانية اللي العدالة الإجتماعية بتمثل شق مهم في تاريخها .. عدالة شفناها في التعامل مع الطلبة، اللي كل حد فيهم كان معرض للسقوط لو ماشتغلش .. و عدالة في التعامل مع المصريين ما بين أسوار المدرسة .. طلبة و عاملين ...

بس الحقيقة ديه مرتبطة إرتباط وثيق بحقيقة تانية، ممكن تبان عكسها .. حقيقة إن أغلب المناصب القيادية في هيكل المدرسة الإداري كانت للألمان ... فسلطة مسؤول الأمن كانت نابعة من إن ألمانيا، المتمثلة في ناظر المدرسة، كانت وراه .. سلطة كانت نابعة من إن أي مشكلة تحصل مع أي سائق أتوبيس، كانت بتُقابَل بالعقاب المباشر من "فراو" ب. - مسؤولة المواصلات و الأتوبيسات في المدرسة (فراو هي تسمية ميس بالألمانية) ... .. و هي سيدة ألمانية بتتحدث العربية بطلاقة، و بتتحكم في أسطول من السائقين المصريين اللي بيخدم كل طلبة المدرسة .

أعتقد إن ده أول باب لفهم تعقيدات منهج المدرسة المستخبي .. منهج رسخ جوانا إن مكان القوة "الطبيعي" موجود في كل ما هو ألماني ... سلطة رمزية ، رفعت من قيمة الألماني علي المحلي .. فالسلطة بجد كانت في الآخر في إيد الجانب الألماني ... والشطارة بجد كانت بتتقاس بأنك تجيبي درجات كويسة في المواد الألماني ... و ده شيء طبيعي، بحكم إن ده المعيار اللي هيقيموكي بيه لو حبيتي تقدمي علي جامعات في ألمانيا .. و بحكم إن المدرسين الألمان كان ليهم وضع (مادي علي أقل تقدير) أعلي من المدرسين المصريين بشكل عام ...

الإجابة معقدة لأن زي ما وضحت في التدوينة اللي فاتت، هيمنة الثقافة الألمانية كانت واضحة في أغلب جوانب المدرسة ..

بس يعني أنت متوقع إيه غير ده؟ ... أنت جاي برجلك للألمان، علشان تتعلم منهم ... و بعدين مش عاجبك نفس السبب اللي جابك من الأول ... ما كنتش تيجي لو ثقافتهم و تعليمهم مش راكبين عليك!

النقد - في ظني - عمره ما يمحي واقع إن المناهج المصرية قلما زغزغت مخنا .. وإن أغلب مواد الحكومة ما زودتناش بمهارات نبص بيها علي تاريخنا و تفسيرات أدياننا بعين نقدية ... و المدرسة الألماني قدمتلنا ده إلي حد كبير .. و ما زالت واحدة من أكتر المدارس اللي بتقدم خدمة تعليمية مميزة في البلد ...

بس شعار المدرسة رفع راية ال Begegnung أو "التلاقي الثقافي" .. و هنا يكمن مربط الفرس .. لأن لما تفتح مدرسة في بلد غريب .. بثقافة مختلفة و له تاريخ إستعماري مع أوروبا نهكه .. فيه مسئولية بتقع عليك ككيان أوروبي ... مسئولية فهم إنك جاي و فيه ناس شايفاك مخلص، و معاك الحلول .. مسئولية إنك متصدقش إنك مخلص بجد ... و إنك تقدم تلاقي ثقافي بيحقق تساوي حقيقي .. فيخلي الثقافتين بتفاصيلهم .. بحلوهم و ومرهم يكونوا راس براس ... ما فيش ثقافة فيهم بتحتكر تعريف الصح .. أو تعريف الحقيقة ...

و إن ممكن حقيقتين عكس بعض يتواجدوا في نفس اللحظة ... و الإتنين يكونوا صح ...

ياما مدرسين ألمان علقوا علي قلة النظام و الفوضي في الشارع المصري كشيء سيئ و عائق حقيقي بيخلق زحمة و حوادث ... حقيقة، مستحيل إنكارها .. بس مش بتنفي إن فيه جمال في الفوضي و العشوائية .. ما إحنا بنتعلم في خضمها إزاي نتعامل مع الغير متوقع ... مع فكرة إن إذ فجأة هتلاقي عربية كاسرة عليك من غير إستئذان، و لازم تتصَرَف .. فوضي بتعلمنا عن الحياة ... بمعناها الأعمق ..

هيمنة الألماني بتكمن في إن إحنا ماتعلمناش نشوف الجمال في العشوائية .. غالباً لأن العشوائية كانت بكل بساطة "غلط" من منظور غربي..

التبادل الحقيقي في إعتقادي المفروض يعكس إدراك إن دور المدارس الدولية مش فرض هوية بحد ذاتها علي الطلبة .. إن دورها الحقيقي هو مساعدتهم يكتشفوا هوياتهم المحلية .. يختاروا اللي يناسبهم منها، و يسيبوا اللي مش عاجبهم .. يدركوا هم ليه أصلا جايين يتعلموا في مدرسة ألماني في مصر .. و يسألوا هو ليه مفيش مدرسة مصري في ألمانيا ..

التبادل الحقيقي ما يرسخش إحساس بالامتنان علشان إحنا محظوظين إن الألمان قبلونا و علمونا .. إحساس مبني علي الفوقية ... التبادل الحقيقي يساعدنا نتحسس التعقيدات الحاصلة بين إمتيازاتنا في بلد ليها تاريخ طبقي و استعماري .. و بين وجودنا في مساحة - اللي بحكم نفس التاريخ ده - سلطتنا فيه أقل من الألماني .. و تساعدنا نتحدى إختلال التوازن ده و نغيره، حتي لو مش في صالحها..

بس في الآخر، المناهج مناهجنا، و العيب علينا ... فبالتالي تحميل المدرسة عبء إنعدام كفاءة التعليم المصري بأي شكل هيكون ظلم بين ... بس يمكن دور المدرسة الحقيقي بيكمن في إدراك منهجها المستخبي و تعديله .. يمكن دورها هو تدريب المدرسين الألمان علي فهم صورهم النمطية عننا .. لأنهم في الآخر جايين من ألمانيا متأثرين بإعلام طلعنا إرهابيين و همج و رعاع .. يمكن لو ده حصل، يقدروا يتحدوا أفكارهم المسبقة عننا في حصصهم و مناهجهم ... و يعلمونا نشوف الجمال في العشوائية ..

يمكن دور المدرسة هو تعيين مصريين أكفاء في مواقع سلطة فعلية، مش شكلية .. فيكونوا مثل حقيقي لينا، يتحدي عقد الخواجة و الدونية ... إن ناظرات المدرسة يكن مصريات و ألمانيات بالتقاسم ... دور المدرسة المفروض يكون إيجاد/ أو تأهيل مدرسين مصريين يدونا نظرة نقدية للذات، بدون ما تكون فيها تجني عليها .. يساعدونا نفهم إحنا مين و إزاي بقينا .. و ليه بنتعلم في البيت قيم غير اللي بنتعلمها في المدرسة .. و إزاي نلاقي مكاننا بين كل الحقايق اللي ممكن تبان مختلفة ديه ...


لما عبد الناصر فرض تعريب المدارس و رفع نسب المدرسين المصريين في المدارس الأجنبية، إدارة المدرسة كانت بتفكر بجدية إنها تقفلها تماماً .. و بعد محاولات مضنية مع النظام ساعتها، قدرت توصل لتحديد عدد مدرسين العربي، و إن الإدارة تكون تحت سيطرة الألمان كاملة ..

بصراحة أعتقد إن كفاءة المدرسة تم الحفاظ عليها، علشان ما تسابتش للنظام .. و في نفس ذات الحين، قرار إغلاقها في تقديري كان نابع من إيمان فوقي بأن المصريين هيجيبوها الأرض، و مش هيقدروا ينقلوا قيم الحرية، و تقدير العمل، و العقل النقدي الغربية للطلبة ...

حقيقتين عكس بعض و بيتواجدوا في نفس اللحظة ... و الإتنين يمكن يكونوا صح .

فهل نجحوا فعلا في تعليمنا التفكير "النقدي" - حتي لو بمنهج "غربي"؟

للأسف الإجابة مش هتكون بنفس وضوح السؤال ..

هتكون إجابة عشوائية ..

بس بلاش للأسف ..

الحمد لله إنها هتكون إجابة عشوائية ...

يتبع ..


مصادر:

Paulus, C. (2011). " Begegnung findet eigentlich nicht statt." Probleme von Begegnungsschulen im postkolonialen Kontext. ZEP: Zeitschrift für internationale Bildungsforschung und Entwicklungspädagogik, 34(2), 24-29.