هو ليه الإنجليزي بقي مؤشر "للنضافة" في مصر؟ - عن دور الدولة في ترسيخ السلطة الرمزية للغة الثانية
في هذا الموقف، تحولت اللغة إلى أداة لفرض القوة، كـ"كرباج" خفيّ. هذا ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930 – 2002) بـ"العنف الرمزي"، فاللغة -في رأيه- أحد العناصر الرئيسة في عملية إعادة إنتاج العلاقات الطبقية في المجتمع، لأن الكلمات واللهجات تعطي سلطة رمزية لها تأثير، يكون -في كثير من الأحيان- أقوى من تأثير سلطة رأس المال، والسر في كونها غير مرئية. فالسلطة الرمزية تتسلل من خلال ممارساتنا اليومية، ولغتنا وعاداتنا، لتحمل معاني قوية يترجمها الآخرون لاشعوريًّا.
من الهامّ هنا، أن نذكر أن تأثير اللغة الثانية كأداة للسلطة الرمزية، ليس بالأمر المستجد. ففي أوروبا كان التمكن من لغة ثانية، دومًا، رمزًا للانتماء إلى نخبة ما، ثقافية كانت أو طبقية. في إنجلترا مثلاً، تعود أولى الأدلة التاريخية على تعلم لغة ثانية، إلى أوائل القرن العاشر الميلادي، إذ ظهرت في شكل حوارات مسجلة بين الرهبان، باللاتينية والإنجليزية. بعدها بقرون تحولت الفرنسية إلى لغة الطبقة الحاكمة البريطانية، لتعكس امتيازات طبقية وهيمنة فرنسية في الآن نفسه. والكلام نفسه ينطبق على رجال الدين وعلماء المسلمين، الذين تعلموا اليونانية القديمة؛ للبناء على علوم الحضارة، من فلسفة وفلك وحساب وغيرها.
إذن الهدف من هذا المقال، ليس التحقيق في سلطة اللغة الثانية الرمزية من الأساس (فهي فرضية مفروغ من صحتها في رأيي الشخصي) وإنما البحث عن إجابة للسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ويدور حول سياسة الدولة التعليمية في مصر منذ أن بدأت "نهضتها الحديثة": هل ساهمت هذه السياسة في ترسيخ قوة اللغة الثانية، كواحدة من أدوات السلطة الرمزية في بلادنا؟ المقال هو محاولة لفهم الدوافع التاريخية، وراء إدماجها أو تجاهلها في نظامنا التعليمي.
بداية تعرضنا –كشعب- للغات الأوروبية، بطريقة مؤسسية ممنهجة ومدفوعة بإرادة سياسية واضحة، كانت في أثناء حكم محمد علي، فهو من أعطى تحديث الجيش المصري أولوية قصوى، نظرًا إلى طموحاته التوسعية في المنطقة. طبعًا، واجه والي مصر حينها، حقيقة أن كل العلم المقرون بأساليب الحرب الحديثة، مكتوب بلغات أوروبية، وهو ما صار بديهيًّا منذ أن طرقت الحملة الفرنسية أبواب المحروسة، إذ تعرضنا على نحو مباشر، لحجم التطور الذي وصلت إليه دول "الغرب" آنذاك. ونتيجة لذلك، قرر محمد علي، بناء أول مدرسة للهندسة عام ١٨١٦، التي اقتصر التدريس الأساسي فيها على اللغتين الإيطالية والفرنسية. ثم سرعان ما لحقتها مدرسة الطب (أو كلية عين شمس) التي أسسها كلوت بك سنة ١٨٢٧، والتي قوبلت فكرة التدريس فيها بلغة أجنبية بمعارضة شديدة؛ نظرًا إلى حداثة مجال الطب، الذي كان لا يزال يكافح ليتحدى أعرافًا وصمته بالحرمانية؛ لتعامُلِه مع أجساد الموتى والنساء، فكان لا بد من التدريس بلغة تتيح للأزهر التفاعل والسيطرة على مجريات الأمور. حينها ظهرت حاجة ملحة إلى ترجمة العلوم، من اللغات الأوروبية إلى العربية، لتعليم الطلبة المصريين، وتمكين الأزهريين من فهم المحتوى. هنا استفاد النظام القائم من خريجي البعثات المصرية إلى فرنسا، وأُنشِئت على أثر تلك الحاجة أيضًا مدرسة الألسن، التي اقترنت لاحقًا باسم رفاعة الطهطاوي.
على كل حال، وعلى الرغم من أن "العِلم الغربي" قوبل -في تلك الفترة- بخليط من اللفظ والترحيب، من الممكن الجزم بأن الربط بين التقدم العلمي والحضارة الغربية بلغاتها، بدأ يتشكل في وعينا الجمعي في ذلك الوقت. وفي غالب الظن، صاحب اختلال موازين القوى الحضاري ذلك، اختلالٌ في موازين القوى اللغوية. فحضارة الغرب -مثلاً- عكفت على إضافة الكلمات الجديدة، واحدة تلو الأخرى، إلى الموسوعة البشرية. فكلمات مثل "كهرباء" و"مؤسسة" لم يكن لها معنى في العربية، لأننا -بكل بساطة- لم نكن نعرف ماهية كلمات، كانت وليدة اختراعات وأفكار جديدة ومختلفة. وفي الوقت نفسه، كانت حضارتنا تصارع لإيجاد مكان لهويتها، ولتلك الكلمات الجديدة، في قواميس عالَم جديد لم تلحق بركبه. حينها، حمل أمثال رفاعة الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، مهمة شائكة وغاية في الصعوبة على عاتقهم.. كان شغلهم الشاغل هو إدماج تلك الكلمات الدخيلة في معجمنا، دون الإخلال بهوية اللغة العربية. فيُحكى مثلاً أن الطهطاوي استفاض في كتابته، لدرجة جعلته يكتب أحيانا صفحات كاملة لشرح كلمة واحدة. استفاضة تبدو منطقية، إذا تخيلنا صعوبة شرح مفهوم مثل "الكهرباء"، لأناس لم يروها من قبل.
تمر الأيام، ويفشل مشروع محمد علي، ويتراجع معه الاهتمام بقضية التعليم عامة. فبخلاف بعض المبادرات في عهد الخديوي إسماعيل، بقي تعليم اللغات محصورًا بداخل مؤسسات بعينها، لم يستطع الوصول إليها سوى شريحة محدودة من المصريين، بما أن نسبة الأمية تجاوزت ٩٥% منهم في تلك الفترة. وبناء عليه، كانت الطريقة الوحيدة لتعلم لغة ثانية هي الالتحاق بإحدى مدارس المبشِّرين الخاصة (مثل الفرنسيسكان والجزويت) التي كانت تقبل المسلمين والمسيحيين على السواء. إلا أنها كانت تتطلب مصروفات رغم أنها ليست بالباهظة كانت -بلا شك- تمثل عائقًا أمام السواد الأعظم من المصريين، الذي ألحق أبناءه بالكتاتيب، ولم ير جدوى لتعليم بناته أساسًا.
التغيّر الكبير جاء لاحقًا، مع قدوم الاستعمار الإنجليزي، وتكوُّن الحركة القومية المصرية، وهما أشد ما أثَّرا جِذريًّا، في تطور مجريات تعليم اللغات في مصر. فبالنسبة إلى الاستعمار البريطاني، كانت فلسفة الحكم تتلخص في عبارة: "خليك على وضعك". و"الوضع" في هذه الحالة، يتمحور حول إنتاج أكبر كمية ممكنة من القطن وتعظيمها، لتصديرها إلى مصانع إنجلترا. ومن أجل حماية الوضع القائم، كانت هناك حاجة ماسة إلى الحفاظ على الفلاح وعلاقته بالأرض؛ فمن دون الفلاح يغيب القطن. لذلك أصر الإنجليز على خلق نظام تعليمي، يصعّب من سبل الترقي الاجتماعي. هنا كان الترقي الاجتماعي مربوطًا ربطًا وثيقًا، بإتقان الإنجليزية أو الفرنسية. فالالتحاق أصلاً بأي من المدارس الثانوية، كان يتطلب معرفة إحدى اللغتين أو كلتيهما، لأن غالب المواد كان يُدرَّس بهما. وتلك المدارس كانت تؤهل مرتاديها للانضمام إلى البيرقراطية الحكومية، أو العمل في السلك القضائي، أو غير ذلك (فاللغة الرسمية للمحاكم المختلطة في مصر –مثلاً- كانت الفرنسية). ولذلك أصر اللورد كرومر، المندوب السامي للاحتلال الإنجليزي، على وضع شرط أن تكون العربية هي لغة التدريس الوحيدة، عند إقرار ضم الكتاتيب في مصر إلى وزارة المعارف، وتحويلها إلى مدارس أولية (أو ابتدائية) عام ١٨٩٨، فإن خولِف الشرط؛ لم تحصل المدرسة على الدعم المالي الحيوي كي تستمر. بناء عليه، صار مستحيلاً على الفلاح أن يترقى اجتماعيًّا، ما لم تتوافر الموارد المادية التي تسمح له بأخذ دروس خصوصية في اللغات، أو الالتحاق بإحدى المدارس التبشيرية الخاصة، وهو بالطبع ما لم تمانعه طبقة ملاك الأراضي، لِما تضمّنه هذا النظام من استمرارية لمصالحها القائمة مع المستعمر. وقد انعكس هذا على عدد المدارس الثانوية في مصر كلها، الذي لم يتجاوز أربع مدارس فقط، في بر المحروسة بالكامل. وهنا يتضح التحول التدريجي للغة، من أداة لإظهار السلطة العلمية، وشرعنة الدمج الثقافي (حاملة بين طياتها -بلا شك- أبعادًا طبقية) إلى أداة صريحة لترسيخ التفاوت الطبقي. فتسليع مهارة تعلم اللغة الثانية في مصر، حوَّلها إلى حائط لا يتجاوزه سوى القادر، لتصير ضمانةً تحفظ الاستقرار السياسي في تلك الفترة.
ولأن المواقف التاريخية عادة ما تكون مركبة، يجب الإشارة إلى أن الحركة القومية المصرية، ساندت قرار فرض اللغة العربية، عند تعميمه سنة ١٩١٦، مع أخذنا في الاعتبار أن النواة المحركة للقوميين، كانت تنتمي إلى طبقة الأفندية الوسطى، التي تلقت تعليمًا يحتوي على اللغة الثانية، وكانت على دراية تامة بمزاياها.
في تلك المرحلة، كانت أولوية الحركة هي النهوض بالتعليم المصري، ما أثار نقاشًا هامًّا بشأن خصائص هوية المجتمع المصري، وكيفية تشكيلها.. هل تكون اللغة العربية هي لغة التعلم الوحيدة في المدارس؛ من أجل حماية الهوية من التغلغل الثقافي للمستعمر؟ أم هل تتاح لغات أخرى؛ للانفتاح على العالم بأفكاره المختلفة؟
ولأن غالب المصريين لم يكن يعرف القراءة والكتابة -حتى الذين أُلحِقوا بالكتاتيب منهم- فرض الواقع نفسه في النهاية. فالهدف الأساسي كان توحيد الهوية المصرية، وتمكين شرائح الشعب المختلفة من التواصل السهل بينها.
شهدت تلك المرحلة سجالاً فكريًّا بين القوميين الإسلاميين، الذين رأوا في الحفاظ على عربية القرآن الفصحي، أداة للحفاظ على الهوية الإسلامية، وبين القوميين الليبراليين، الذين رأوا في التعمق في البلاغة "كلكعة ملهاش لازمة"، بل عائقًا أمام المشروع كله. ليتقرر بعد ذلك تبسيط اللغة العربية، واستحداث مادة خاصة لها، تتوحد تحت مظلتها كل علوم اللغة من نحو وبلاغة... إلخ.
كانت الغاية الأساسية من تلك الخطوة، أن يفهم المواطن البسيط المنشورات التي يتلقاها من مناهضي سلطة الاستعمار، وليس بالضرورة أن يستطيع تفسير معاني القرآن الكريم، وهو ما تحقق في نهاية المطاف؛ بعد تولي سعد زغلول رئاسة وزارة المعارف، والضغط تدريجيًّا لزيادة عدد المدارس الثانوية والسعدية في مصر، والتركيز على تعميم العربية، وخلق طبقة عريضة متعلمة؛ عن طريق توفير التعليم العالي لقطاعات أكبر من الشعب. وهي المدارس التي تخرج فيها لاحقًا، الرئيسان جمال عبد الناصر، وأنور السادات.
إن رمزية اللغة الثانية، وارتباطها الطبقي، يتجلي عند التحقيق في علاقة الأرستقراطية المصرية باللغات الثانية، التي كانت مركّبة هي الأخرى. فالخديوي عباس مثلاً -وهو "الكريزة اللي على الكريمة"- لم تعبأ عائلته العَلَوية إطلاقًا بتعليمه العربية. فطبقا لمذكراته، كان الطفل عباس طلق الحديث بالتركية؛ بحكم أنها لغته الأم، والإنجليزية؛ بحكم أن مربيته كانت بريطانية الأصل. وفي المقابل ظلت عربيته ضعيفة حتى مماته. وبلا شك، أثر ذلك "التبرؤ" في تقييم هذه الطبقة لأهمية اللغة العربية، خاصة إذا كان حاكم البلاد، ورأس الأرستقراطية ونموذجها، لافظا لها من الأساس. علاقة الطبقة الأرستقراطية مع الإنجليز، عكست علاقة ثنائية، ومتضادة بالتوازي، مع لغة المستعمر هي الأخرى. فتفاعُل أبناء تلك الطبقة مع الاستعمار في الإطار التجاري، أعطى إيحاءً كاذبًا بالندية من ناحية (بمنطق "كلنا بتوع بيزنس وكده")، ومن ناحية أخرى قوبل ذلك التفاعل الإنساني، بملامح من الفوقية والتعالي من جانب المستعمر نحوهم، وهم مَن اعتُبِروا "كريمة الكريمة"، لأن الإنجليز كانوا يستحقرون المصريين، بصرف النظر عن انتمائهم الطبقي؛ فكانوا حريصين كل الحرص على عزل أنفسهم عنهم، لدرجة جعلتهم يبنون مدارس خاصة بهم؛ لا يُسمح لأبناء المصريين بدخولها. وحتى العمالة الإنجليزية الفقيرة كانت لها مدارسها الخاصة.
تلك اللامساواة ساهمت –غالبًا- في ترسيخ "عُقَد" الدونيّة، المتربطة باللغة والسلطة والوجاهة الاجتماعية. فتلك المدارس تحولت بعد ذلك، إلى مآل لأبناء الطبقات العليا، في أثناء الحقبة الناصرية، لتتحول المدارس التي كانت رمزًا مؤسسيًّا لاستبداد المستعمر، إلى رمز أقل حدة للاستبداد الطبقي.
وعلى الرغم من تتابع الأنظمة والأيديولوجيات، بين من صنف نفسه قوميًّا، ومن لبس رداء الانفتاح، استمر تبلور اللغة الثانية كسلطة رمزية، ومن ثم تحولت -مع التوسع في التعليم الخاص، وطوفان مدارس اللغات الهاجم من كل حدب وصوب- إلى علامة لـ"النضافة" و"الشياكة" و"الفلوس". وهنا يبقي السؤال قائمًا: كيف لنا أن نتغلب على المخزون الطبقي، الذي تحمله إجادة اللغات الثانية؟ وإذا كانت هيمنة أمريكا الثقافية واقعًا، وتأثرنا بالتاريخ حتميًّا، وارتباطنا بالدين طبيعيًّا، كيف لنا أن نحدد أطر التعامل مع اللغة الثانية في مدارسنا ومع أطفالنا؟ هذا -في صميمه- هو السؤال نفسه الذي انخرطنا فيه، منذ ما يزيد على المئة عام. فهل هناك ملامح محددة وواضحة للهوية المصرية التي ينبغي علينا إدراكها؟ أم أن هذه الهوية نسبية ترتبط فقط برؤيتنا الشخصية لها؟
المصادر
.alSamara, K. (2017). A new educational model and the crisis of modern terminologies: a view of Egypt in the nineteenth century. Paedagogica Historica, 53(1-2), 24-35.
BASHEER, M. (2002). Imperialism, Class and Power in pre-Republican Egypt.
Baraka, M. (1998). The Egyptian upper class between revolutions, 1919-1952 (No. 30). ISBS.
De Bellaigue, C. (2017). The Islamic Enlightenment: The Struggle Between Faith and Reason, 1798 to Modern Times. Liveright Publishing.
Haeri, N. (1997). The reproduction of symbolic capital: Language, state, and class in Egypt. Current anthropology, 38(5), 795-816.
Mak, L. (2012). The British in Egypt: Community, Crime and Crises 1882-1922 (Vol. 74). IB Tauris.
Mitchell, T. (1991). Colonising Egypt: With a new preface. Univ of California Press.
Yousef, H. A. (2016). Composing Egypt: Reading, Writing, and the Emergence of a Modern Nation, 1870-1930. Stanford University Press.