عن أبو شهيد والأفروسنتريزم وأشياء أخرى
منذ اللحظة الاولى كانت الكيمياء بيننا منعدمة.
هو كان طفل أمريكى من أصل أفريقي إسمه شهيد أو بالأحرى "Shaheed" .. كان ينبوع طاقة لا ينفد .. كرة نار عمرها لا يتعدى التسع سنوات. يتميز بخليط من الذكاء ، وسرعة البديهة، الممزوجة بسخافة سن ما قبل البلوغ. آلة نكت قصيرة وسمجة ملحوقة بضحكات طويلة ومتتالية وعالية تفرض نفسها على كل السامعين ...
أما أنا على الجانب الآخر، فطاقتى عادة تحوم فى منطقة الlow energy .. ولنفس هذا السبب أعتقد أننى لطالما وجدت ضالتي في تدريس فصول ثانوي، لاستطاعتى بشكل أو بآخر استحضار تلك الطاقة معهم في المكان. هذه الحقيقة لم تمنعنى حينها من قبول تعليم العربية After-school لمجموعة صغيرة من الطلبة الأمريكيين دون سن العاشرة، كطريقة لتوفير بعض المال الإضافي. ولمن لا يعلم ، فتعليم اللغة الثانية للأطفال مجال له تفاصيله وحذافيره، وأنا لست على دراية حقيقية بشقه الممارساتى.
وقبل أن تحكم على، فإعلم أننى أتحمل جميع إخفاقاتى كمدرس يؤمن بكل ما قيل في الdifferentiated learning والmultiple intelligences والcultural relevancy. وأدرك جيدا وقوع مسؤولية تصميم الأنشطة المناسبة لاحتياجات الأطفال المختلفة على عاتقي. أرجو أن تعلمى أيضا أنني حاولت محاولات مريرة مع شهيد. فقد تحولت معه إلى "أراجوز" يقفز ويغنى و "يعمل البدع". إلا أن الكثير من محاولاتي معه باءت بالفشل.
باختصار، شهيد كان يحتاج إلى شخصية بتركيبة مختلفة تماما عنى. وأعتقد أنه سرعان ما أوصل إحباطه وعدم اندماجه إلى عائلته. فأصبحت الأم هى الأخرى متشككة من جدوى الحصص ، فبدأت أستشعر شكوكها فى كل مرة كانت تأتي لاصطحابه فيها.
و في أحد الأيام وجدت رجلا يطرق على بوابة المدرسة بعد انتهاء حصتنا. كان ضخم البنيان وله صوت جهور عرف به نفسه كأبو شهيد.
كانت تلك مقابلتنا الأولى. لم يضيع الوقت وبدء المحادثة بعدد لا بأس به من الأسئلة، كان الهدف الأساسى منها هو تقييمى كمدرس. حاولت أثناء تلك الفقرة أن أستعرض مؤهلاتي. و لكن لسبب ما لم ينبهر على الإطلاق. ثم سألني بشكل مباشر
- "أنت منين؟"
- "من مصر"
- "و إيه اللي جابك هنا؟"
- "دراسة .. وبعدين حاجة جابت حاجة ... وأدينى لسه قاعد"
- "بس غريبة أنك من مصر .. أنت ملامحك مش مصرية"
لم أستوعب الكلام في باديء الأمر ، فبان على نبرتى شيء من التردد.
"قصدك إيه؟"
"المصريين لونهم أسود ... مش زيك. أنت شكلك عربي ... أنتوا غزيتم مصر مع محمد ، لما العرب استعمروا مصر وبسببهم بقيتوا أنتم سكان مصر الأصليين."
قالها كحقيقة غير قابلة للتفاوض بثقة المؤرخ الباحث المتمرس.
بدأت في التصبب عرقا. لأول مرة في حياتي أشعر بكينونتى المصرية تحت خط النار .. طيلة عمرى كانت مصريتى شيء مسلم به .. تداخلت مشاعرى ... غضب مصحوب بحيرة واستنكار ... فمن ناحية أدرك أن القومية اخترعها الإنسان لتلبى رغباته فى الشعور بالإنتماء لكيان أكبر من شخصه ... وكانت نتاج حركة أوروبية أيديولوجية لها معطياتها وسياقها التاريخي. ففى أي موقف آخر كنت في الأغلب علقت قائلا "يعنى إيه مصرى أصلا؟"
و لكن في هذا الموقف تحديدا رددت ب"حزقة" مكتومة تظهر عادة عندما أتعجل في الإجابة ويأخذنى أحدهم "مقص حرامية على خوانه" ..
- "ده مش حقيقي على فكرة ... هو أنت عمرك رحت مصر قبل كده؟"
- " لأ مارحتش"
رد فعلى الغريزي لم يوجهنى إلى مناقشته فى أصول القومية، ومفارقة استخدام رجل أمريكي أسود لمفهومين غربيين مصطنعين كالعرق والقومية لينتزع بهما عنى هويتى ... لم أحاول حتى تفنيد ما قاله تاريخيا في حدود معرفتى بالموضوع ... بل تحول النقاش إلى محاولة غريبة منى لإثبات أن المصريين فيهم جميع الألوان والأشكال. وأن الأسود هو أحد ألوان الطيف المصرية. وحقيقة لا أدري إن نجحت فى ألا يتحول النقاش إلى محاولة منى للتملص من أفريقية مصر.
ظهرت نزعتى القومية المحفورة فى جنبات قلبى بقوة لا شك فيها ... وما زلت أتساءل إن إحتوت على آثار لعنصرية كامنة هنا وهناك. عنصرية تجلت وأنا أتابع ردود أفعال البعض تجاه حفل كيفن هارت. فالشيطان يكمن فى التفاصيل .. والكثير من الحق يراد به باطل.
وها هو المقهور يقهر بسطحية بالغة في فهمه لتاريخ قارة بأكملها تحت رداء الانتماء الأفريقي ... جاء ليشكك فى هويتى و يمارس على عنفا مورس عليه لسنين تباعا. عنفا فى رأيى صهيونيا في لبه، لا يحمل بداخله أى محاولة حقيقية للفهم. فقهر المقهور قد يكون أكثر خطورة من قهر االقاهر، لأنه يأتى تحت مظلة استحقاق يمزج بين الحقيقة والخرافة التاريخية. وبه يشرعن العنف.
يومها قضيت رحلة العودة إلى البيت أتخيل كل جملة وكلمة كان من الممكن الرد على أبو شهيد بها. قضينا الساعات التالية نتبادل المقالات التى تثبت وجهات نظرنا ولم نصل إلى أى استنتاج.
لم يحضر شهيد حصتي مرة أخرى. ولا أدري إن كان السبب إنعدام الكيمياء بيننا، أم إخفاقى كميسر، أم نقاشي الغريب مع والده. في الأغلب كان مزيجا بين كل هذه الأسباب.
إلا أننى متأكد من حقيقة واحدة.
شهيد تعلم في حصتى أن اسمه أصله عربى ويعني "martyr" بالإنجليزية.
تم تغيير أسماء الجميع بما يتماشى مع روح القصة الحقيقية
في حالة الاهتمام بالموضوع أرجو قراءة مقال سها بيومي التالى وشرحه الموفى لتعقيد المسألة: https://manassa.news/stories/9866?fbclid=IwAR26HX03ed4vipMLEwk2QU9Sb109p5C7ELgwlTtPQbve-vvvLdEOMmat9Gk